ارتبط المسرح اللبناني عند نشأته أواسط القرن التاسع عشر بالتراث، مثلما حدث في بلدان عربية أخرى في مقدّمتها مصر، حيث جرى استعادته في لحظة تاريخية هيمن على المشتغلين فيه همّ الهوية مثل مارون النقاش (1817 – 1855) الذي قدّم شخصيات مثل أبو الحسن المغفل وهارون الرشيد، إضافة إلى اقتباساته عن موليير.
تطوّرت هذه الاستعادات في مراحل لاحقة، حيث استند الفن الراابع على نصوص معاصرة مستقاة من التاريخ العربي، كما عند إبراهيم اليازجي وبطرس البستاني، وقد غلب عليها الطابع التربوي والتعليمي، وبرز المسرح الشعري على يد فوزي المعلوف وإلياس ابو شبكة، مروراً بمسرح الرحابنة الغنائي، وصولاً إلى التجارب التي صعدت أثناء الحرب الأهلية (1975 - 1990).
"عن التراث والمسرح" عنوان اللقاء الذي ينظّمه "متحف سرسق" في بيروت عند الرابعة من مساء السبت المقبل، الحادي والعشرين من الشهر الجاري، ويتحدّث خلاله الباحث الموسيقي اللبناني أكرم الريّس، ويديره المتخصّص في تاريخ الفن البريطاني الإيراني فالي محلوجي.
يقف المتحدثان عند دور "مهرجان بعلبك" الذي ساهم في تنشيط المسرح اللبناني منذ تأسيسه عام 1955، والعروض التي كانت تقدَّم وتعتمد على الموسيقى والغناء والرقص، ضمن أكثر من توجه لتجديد العديد من الطقوس والتقاليد الشعبية.
يتتبّع الريّس، الباحث في علم الموسيقى الإثنوغرافية، في مقالاته ودراساته، نماذج عديدة استثمرت التراث اللبناني، مثل توفيق الباشا (1914 – 2005) الذي افتتن بالموشحات في أعماله، وأولى اهتماماً خاصاً بالابتهالات والإنشاديات، مستحدثاً الإنشادية الدينية المشرقية للأوركسترا السيمفونية والجوقة.
كما يستعرض تجربة زكي ناصيف (1916 - 2004) في مرحلة لاحقة من حياته، حين سعى إلى بعث التراث الشعبيّ في النهضة الغنائية في لبنان ضمن رؤية موسيقية حداثية ترتكز على الأوركسترا الموسّعة وتبتعد عن جماليات "التخت" والارتجال المقامي.
ويشير أيضاً إلى أن حالة نهضوية مثّلها المسرح اللبناني المرتبط بالغناء والموسيقى بعد تأسيس "مهرجان بعلبك" كان قوامها تقديم هوية لبنانية من خلال الفن، والتي لم تنفصل عن التراث الشامي الأوسع.