حين أصدر الناقد الفرنسي أنطوان كومبانيون (1950) كتابه "شيطان النظرية"، سنة 1998، سرعان ما حجز مقعداً بين أبرز المشتغلين بالأدب؛ مثل جيرار جينيت وفيليب لوجون وتزيفيتان تودوروف وجوليا كريستيفا، وإن كان الأخيران قد انسحبا إلى مشاغل أخرى منذ نهاية السبعينيات. كان هذا العمل عبارة عن خلخلة طريفة لما تبقّى من مسلَّمات الدرس الأدبي حول المؤلّف والأجناس والقرّاء والأسلوب وغير ذلك.
سبقت هذ العمل مؤلّفات أخرى أصدرها كومبانيون؛ مثل: "نحن، ميشال دي مونتاني" (1980)، و"الجمهورية الثالثة للآداب" (1983)، و"بروست بين قرنين" (1989)، فيما لحقته أعمال مثل: "بودلير أمام ما لا يُعدُّ" (2003)، و"المضادون للحداثة" (2005)، و"صيف مع بودلير" (2015). لكن، ظلّ كتاب "شيطان النظرية" عمله الأبرز، وقد يكون السبب في وصوله، سنة 2006، إلى كرسيّ الأدب في "كولاج دو فرانس" إحدى أعرق مؤسّسات البحث في بلاد فولتير.
يُلقي كومبانيون صباح اليوم محاضرة مفتوحة في "كولاج دو فرانس" بباريس، لا يقلّ موضوعها إشكالية عن كتاباته، وفيها يعود إلى أحد أقرب المؤلفين إلى نفسه؛ الروائي الفرنسي مارسيل بروست (1871 - 1922). غير أن المحاضرة لن تقاربه كروائي؛ حيث تحمل عنوان "بروست ككاتب محاولات"، على الرغم من أن صاحب "البحث عن الزمن المفقود" لم يصدر كتاباً ضمن هذا الجنس الذي لا يُصنَّف ضمن الأدب عادةً، وإنما في خانة الأعمال الفكرية، فالمحاولة تقوم على جدال فكرة وتقليبها من مختلف الزوايا، وهي على خلاف الدراسات الفكرية والأكاديمية قابلة لإدماج الصوت الذاتي، وعلى خلاف الأدب لا تحتمل التخييل بين طيّاتها، وإنما مرجعها الدائم هو الواقع.
في محاضرته، ينقل كومبانيون إشكاليات هذا الجنس من الكتابة إلى مؤلّف عُرف بإشكاليته. وفي حين أن بروست حيّر منظّري الأدب إن كانت أعماله تُصنَّف ضمن الرواية أم السيرة الذاتية، فإن كومبانيون يذهب مذهباً جديداً حين يثير مسألة أخرى، وهي احتمال أن تكون الرواية محاولةً، أو على الأقل اتجهت صوب المحاولة في وقت من الأوقات.
بحسب تقديمه للمحاضرة، يشير الناقد الفرنسي إلى أن بروست كان قد تساءل في 1908: "هل سأكتب رواية؟ أم نصاً فكرياً؟ هل أنا روائي؟". هذا الشك، بحسب كومبانيون، يؤدّي إلى جنس المحاولة أكثر منه إلى الرواية، غير أن زمن بروست كانت فيه ملامح المحاولة غائمة إلى حد كبير مقابل ازدهار الرواية.
انطلاقاً من هذه الإشكاليات، يبدو كومبانيون أنه يريد أن يعيد النظر في مسألة تداخل الأجناس، وخصوصاً أن نموذج بروست يتيح أكثر من اختبار، مثلاً لمقولة إن الرواية مستقبل كل أنماط الكتابة، وهي مقولة صعدت في القرن التاسع عشر، وربما يقابلها ظنٌ من بعض المنظرّين بأن المحاولة تستطيع هي الأخرى أن تستوعب كل أجناس الكتابة داخلها. لا ننسى، هنا، أن معظم إصدارات كومبانيون أتت ضمن جنس المحاولة، وكأنه يروم أن ينقل كاتبه المفضّل إلى مجاله.