شغَلت فكرةُ الثبات والتغيُّر الذِّهنَ البشريّ منذ القديم، وتجسّدت في موقفيْن بارزيْن مثَّلهما بَرْمينيديس بإيمانه بالهوية وثباتها، في مقابل هيرقليطس باعتقاده أنّ التغيّر المستمر حال لا تعرف التوقف، وقد عبّر عنها بقولته الشهيرة "إننا لا نسبح في النهر ذاته مرَّتين".
وانطلاقاً من مَعيشنا اليوميّ، نكتشف استناداً إلى منظور علميّ رصين يعتمد نظرية "الحداثة السائلة" لعالِم الاجتماع البولندي زيغموند باوْمان، أن لا شيء يستمرُّ على حال واحدة ثابتة أيضاً، بما في ذلك الإنسان؛ فالتغيُّر في نظره ديدن الوجود، يزحف على الصلابَة في تجلّياتها المتعددة، ليُصيِّرها سيولة، خصوصاً في عصرنا الحديث الذي يَطبعُه عدم الاستقرار.
وبَديهي أن يكون النصّ مُلتصقاً بزمانه، يُعبِّر عن انشغالات آنية ومحليَّة، ولكنه ينفتح على المُستقبَل في الوقت ذاته، مما يؤكِّد أنه كيانٌ عائم، لا يلزم حالاً واحدة؛ ولأنه منذ لحظة ولادته يُعلن عن إقامته في اللامكان، فهو في صيرورة متواصلة، وعلى استعداد للتحوّل والارتحال والهجرة وإعادة التشكُّل.
والعجيب أنّ العرب في نقدِهم القديم انتبهوا إلى خاصية السُّيولة في الشعر تخصيصاً، وتحدثوا عن مفهوم الماء في الكتابة، فتحدَّثوا عن ماءِ الشعر وروائه وعذوبته في معرض التطرق إلى حُسنه وطلاوته.
بل منهم من استلهم الماء من منظور نفعي وعملي، بحيث جعله يتدفّق من النصوص فُصوصاً، ويبدو أنّ ما كان الشِّعرُ يرومُه عند ابن سلام هو ما كانت الحاجةُ إليه؛ واستند في ذلك إلى قول الحَجّاج للمساور بن هند، في "الشعر والشعراء": "لِمَ تقول الشعر بعد الكبر؟ قال: أسقي به الماء، وأرعى به الكلأ، وتقضى لي به الحاجة، فإن كفيتني ذلك تركته".
وحريٌّ أنْ نستعير المفهومَ للترجمة أيضاً بصفتها كتابة، على اعتبار أن قضايا الأدب من قضاياها، فنقرّ لها بأحقيَّتِها في أنْ تتصف بالسيولة هي الأخْرى، لأن الأصل فيها أنها مُنْتَج لا يَعْرف الصّلابةَ، لأن سمتَها الحركةُ الدائبة.
ينساب النصُّ عبر الترجمة، فيتسرَّب إلى فضاءات غريبة ومتعدّدة تشكِّل أرخبيلاً ثقافياً تكون الترجمة الجسر الواصل بين جُزُره، وهنالك يلتقي بقرّاء غرباء غير الذين يكون المؤلِّف الأوّل قد رامَهم، لمّا خاطبَهم بلغة يُشاركهم إياها، ويكون طموحُه في الغالب تحقيق المصلحة العامة، وتوثيق الأخوّة الكونية، والتعاون المتبادَل، دونَ أنْ نغفل عن تطلُّعِه إلى مُصارَعةِ الزّوال، لأنه يكون مسكوناً بهاجس البقاء.
إذاً، تُقدِّم الترجمةُ ذاتَها سَائِلاً ثقافياً، يَكون على استعداد، وَفْق المفكّر الفرنسي جيل دولوز، ليعيش المُغادَرةَ المَوْطِنيّة (Déterritorialisation)، وهي الطموحُ الأبدي لكلّ نص، لأنّ النصوصَ يشغَلُها الاستمرارُ في الوجود، لكنْ في إِهابٍ جديد، أي نصّاً آخَرَ مُختلفاً، لا تسقُطُ عنه الصِّلةُ بأصله، مهما تنوَّعت الاختلافات التي تبدو بين الاثنيْن، خصوصاً في ما يُعرَف بالعتبات أو التقديمات ضمن الهوامش.
وضروري الانتباه إلى أنّ تلك العتبات هي تجلٍّ آخرُ للسُّيولة في الترجمة، وهي لا تعني بتاتاً فقدانَ النصوص لملامحها، أو حدوثَ تشوُّهات فيها، أو تحريفها، أو اختلالَها بفعل التغيُّر الأيقوني الذي يطرأ عليْها، بل ينبغي قَبولُها بِصِفتها دفْعاً بالنصّ في إبحارٍ جديد، وليست مخاتلةً للإيقاع به من قِبل المترجِمِ.
لكنّ الترجمةَ سائلةٌ أيْضاً، لأنها لا تتوقّف عن طرح الأسئلة، فتكون مُشتَقَّة من فعل "سأل"، وليس "سال". لأنها تهتمّ بإدخال الجِدَّة إلى المجتمعات، حسب الهنديّ هُومِي بَابَا، فتُوقفنا على الغريب والمختلف لدى المجتمعات الأجنبية؛ في الفكر والعِلم والمعرفة والإبداع والسلوك والسياسة والاقتصاد وكل مَرافق الحياة. وتجعلنا نرى العالَم من زاوية مختلفة، وتدفعنا إلى أنْ نتساءل إن كانت حالُنا بخير، وأنْ نعرف مكانتنا بين العالَمِين، وذلك لعمري ما يُزعِج السلطة والنَّاهِبين والمتغطرسين وحُرّاس العتاقة.