حلم بيبرس وهو العبد التركي المبيع طفلا أن يعيش في عصر آخر، أي في العصر البطولي الذي كان الصراع فيه بين الفرس والترك أسياد العالم الشرقي المعروف في حينه، العصر الذي كان الترك فيه يستخلصون البلاد من الفرس، فكانوا زمن انتصارهم يشعرون بالعزة الكبيرة، فهم (الترك) والعارفون بأنهم كانوا عادة مميزون بين عدد من الخانات والسلاطين الصغار الذين انتصروا على الأمة المنافسة والمحاربة الكبرى في وسط آسيا، أي الفرس.
كانت الحروب بين هاتين الأمتين سجالاً، فمرة ينتصر الفرس ويستعيدون البلاد التي كانت تحت حكمهم وتأثير لغتهم والمباهاة بدورهم في التاريخ الشرقي، وأخرى ينتصر الترك أسياد آسيا شبه الصحراوية فيستعيدون عزة المنتصر، وكان الترك حين يسمعون بالبطولات الفارسية يشعرون بخجل خاص بالمهزومين خطأ، ولكنهم كانوا كانتقام خاص بهم يتوعدون الخصم الفارسي في أشعارهم وأحلامهم الليلية.
وكان بيبرس يعرف أن الفرس تلك الأمة القوية والمسيطرة على الشرق قد زالت واختفت بقدوم العرب المسلمين المحاربين تحت راية دينهم الجديد... الإسلام، وكان بيبرس يعرف أن الترك قد اختفوا عن الساحة العالمية كالفرس منذ ظهور العرب المسلمين الذين انتصروا على كلا الأمتين في فجر ظهوره أي فجر ظهور الإسلام. فما عدا أتيلا الذي دمر أوروبا قبل ظهور العرب المسلمين، لم يعد للترك من صوت أو فاعلية قبل ظهور الإسلام الذي دخلوا فيه زرافات ووحدانا مع نداءات المغامرين من الدعاة إلى الإسلام، ثم قبلوا بالعمل مرتزقة عند الأسرة العباسية في بغداد، مضمرين أن الوقت ربما حان قريباً للعمل على إعلان عودة الترك إلى ساحة السياسة العالمية.
حاكم مصر
أما بيبرس فيذكر جيداً قتله السلطان التركي أو المملوك الأول قطز بعيد معركة عين جالوت التي انتصر فيها السلطان التركي قطز على التركي المغولي كتبغا، فاستولى بالتالي على مملكة مصر ثم الشام واحتل العرش حاكماً لمصر التي لم تعرف حاكماً من أبنائها منذ قرون، صانعاً وبانياً طريقة جديدة لتولي الحكم: اقتل السلطان القائم، فتصبح السلطان القادم!! بيبرس هذا كان منذ طفولته يعيش في معسكر للعبيد في دمشق يستمع إلى القصاصين والحكواتية يتحدثون عن بطولة الترك بتدميرهم "الوحشية الفارسية" في آسيا، ولكنه كان يعرف أيضاً أن المسلمين العرب قد محوا فارس عن الخريطة العالمية.
ويعرف أيضاً أن الترك قد استولوا على مصر للمرة الثانية منذ ابن طولون وأسرته الذين سبقوا العبيد الترك في الوصول إلى عرش مصر، وأعادوا إلى الترك عزتهم وسيادتهم على العالم الآسيوي من مصر العربية، حين قاموا بالتخلص من طوران شاه آخر الحكام الأيوبيين، ويعرف أنهم استطاعوا إذلال التيجان الأوروبية في فلسطين، ولكنه كان يتمنى شاعراً أو قصاصاً يخلد مآثر الترك في الحرب، ولم يكن يقيم وزناً للتسميات المكرورة، من مماليك وعبيد الخ.
المهم هو أن الترك المماليك سيستعيدون، وقد استعادوا الأمجاد القديمة في حربهم ضد الفرنجة والفرس الخصمين القديمين، وقد آن أوان تخليد أفعالهم وحربهم ضد الفرس من مصر، وبشخص السلطان بيبرس البندقداري بعد قتله السلطان المملوك قطز، واستيلائه على كرسي السلطنة في مصر والشام التابعة للقاهرة.
سيسميه أنصاره والمؤرخون في مصر بـ "الملك الظاهر بيبرس"، رغم أنه لم يكن يتقن العربية. فالتركية لغته الأم، وكانت الفارسية لغة التفاهم بين الفرسان من المماليك متعددي الأصول من فرس وأرمن وأوروبيين. وكان أيضاً يعرف أن الفرس قد صنعوا ملحمة عن البطولات الفارسية ضد الترك، المغول، البخاريين، كما اعتادوا تسميتهم ساخرين من عيونهم المستعرضة، ومن لكنتهم غير الغنية بالشعر كما لغة الأسياد الفرس.
محاكاة الشاهنامه
كانت ملحمة الشاه نامة للفردوسي قد ملأت الدنيا وهي تحكي عن الملوك الفرس، والفرسان الفرس، وكيف انتصروا على الملوك الترك في آسيا العميقة، ثم في الشام ومصر والعالم. وكان مؤلفها "الفردوسي" قد استعاد الفخر والأمجاد إلى الفرس في روايته المغناة تلك، فاستعاد الفرس بها أمجادهم وانتصاراتهم على الترك والعرب وعلى الدنيا.
في إحدى ليالي بيبرس الأرقة قرر أن يدخل التاريخ كأتيلا الذي هدم أوروبا قبل أن يموت، فطلب في اليوم التالي استدعاء المنادين وطلب إليهم الإعلان عن جائزة نقدية كبيرة لمن يستطيع وضع كتاب عن الانتصارات التي أنجزها بيبرس البندقداري على الصليبيين الأوروبيين في الشام "فلسطين والساحل"، من دون أن يسمي الكتاب المطلوب التفوق عليه، أو المؤلف، أو الأمة المهزومة (الفرس) التي تتغنى بالأمجاد الفارسية الزائلة، وانتصارها على الملوك الترك، وهو اسم مسلم للمغول والتتار، والجغتاي، والبخاريين وعلى أمم آسيا التي تتحدث بشكل من الأشكال التركية.
وتقدم كثير من المتطوعين من فطاحل الكتاب في عصره لكتابة المأثرة الإسلامية "التركية" في هزيمة الفرنجة والفرس، وإقامة مملكة للترك في أفريقيا، والشام أو البلاد الشامية عدا بعض الساحل الذي عاد إليه الأوروبيون من غزاة وتجار بحريين بعد الانتصار الكاسح الذي انتصر فيه صلاح الدين على الصليبيين الأوروبيين في حطين، وتحمّس الأوروبيون بعد الانتصار، فجاؤوا جماعات وأفراداً من الفرسان يعلنون عودة الصليبيين إلى فلسطين والأراضي المقدسة، فقد كان حتى "التعرّب" أو المعرفة المتقنة للعربية موضة منتشرة بينهم.
كان الأمراء الصليبيون القدامى أي ممن قدم مع الموجة الاستعمارية الأولى قد أتقنوا العربية مفتاح الحضارة في ذلك الحين. وكتاب أسامة بن منقذ حافل بأسماء الأمراء الصليبيين (كما يطلقون على أنفسهم) الذين أتقنوا العربية وبسخريتهم من الصليبيين الجدد القادمين من أوروبا المتعصبة ضد الإسلام والمسلمين، وقد سرد عدة حكايات عن جهل الأوروبيين الطبي، وتعلمهم على يد المسلمين.
بيبرس كان مهتماً بالكتابة عن انتصار الترك على الفرس كرد جميل على الشاهنامة وعلى الصليبيين الذين يصفهم أسامة بن منقذ بقوله: "أما الفرنجة فلا شيء يميزهم إلا القوة والشجاعة. ويكمل: "وهذه موجودة لدى الحيوان".. وفي مكان آخر يقول: "أما الإنسان المتحضر فيتميز بالعقل والحكمة والشعر".
وتحمس مرتزقة الكُتّاب لوضع الكتاب الذي ستكون جائزته الكبيرة مثرية لمؤلفه ولأبنائه حتى الموت، فقدم ابن شداد للظاهر بيبرس كتاباً أو مشروع كتاب "فلم يصلنا حتى الآن"، يجيب به على كل الأسئلة التي طرحها القفجاقي التركي بيبرس، وطلب بيبرس منه قراءته عليه متظاهراً بإتقانه العربية، ولكنه كسول عن القراءة.
مسح وتصويب
واستمع بيبرس إلى ما قرأه عليه ابن عبد الظاهر، واستمع حتى سئم، ورفضه، فليس هذا هو الحلم أو الأمنية في النصر العظيم لبيبرس على الفرس الملاعين، مضمراً أن ليس هذا ما يريد رداً على ما قرئ عليه في كتاب الشاهنامة عن الانتصارات الفارسية على الترك في آسيا العميقة.
ثم تقدم ابن عبد الظاهر بكتاب عن البطولات البيبرسية في انتصارها على بقايا الأيوبيين وعلى بقايا الصليبيين في الشام، ولكنه استمع إليه بينما كان يشرب البوظة (مشروب كحولي تركي) في ملل، ورفضه.
كان على بيبرس الانتظار لفترة حتى تقدم إليه "ابن عبد الظاهر" عارضاً أن يقدم إليه الكتاب فصلاً ففصلاً، فما وافق عليه السلطان اعتمده الكاتب، وما رفضه مسحه عن الكتاب ووافق بيبرس على ما عرضه ابن عبد الظاهر، وخاصة حين قرأ في كتابه المليء بالأعاجيب والسحر الأبيض، والخواتيم السليمانية السحرية تتحكم بالمردة والجان و"الانتصارات" على الفرنجة حتى من كان منهم ما يزال في الغرب الذي سنعرفه باسم أوروبا الصليبية.
وهكذا بدأ الروي والانتقاء على مسامع الملك الظاهر الذي بدا كمن يختار خلوده بيديه، هنالك من يكتب أمجاده وهو ينقحها رفضاً أو تعليقاً أو تصحيحاً أو تعديلاً، فانبثقت أمامنا وللتاريخ واحدة من أروع سير الملوك والعظماء سيرة تضاهي شاهنامة الفرس وألف ليلة العرب وسيرة سيف اليمن وأبو زيد الهلالي، سيرة جعلت من قائدها أحد الأبطال الشعبيين في مخيلات العامة طول قرابة ألف عام.