في دورته الأولى التي اختتمت في بيروت، أول أمس، قدّم "مهرجان المسرح الأوروبي" سبعة عروض متفاوتة في مستواها الفني والإقبال الجماهيري عليها. بدا اختياراً موفّقاً من لجنة المهرجان أن يفتتح بالعرض البريطاني "اسمي راشيل كوري" للمخرجة فالنتاين سميث، ففيه محاولة لتتبّع مسار الناشطة السلمية الأميركية راشيل كوري (1979 - 2003) التي قتلت على يد قوّات الاحتلال الإسرائيلي.
يقوم العرض على العمل التحريري لنصوص مذكّرات كوري الشخصية، وعلى نصوص الرسائل الإلكترونية التي كانت تُرسلها إلى عائلتها من مدينة رفح الفلسطينية، حيث فارقت الحياة تحت جنازير جرافة إسرائيلية بينما كانت تعترض طريقها في محاولة لإيقاف هدم للمنازل الفلسطينية التي ينفّذها الاحتلال هناك.
نُفّذ العرض المونودرامي بسينوغرافيا مكوّنة من مدرج خشبي وُضع على المسرح يمثّل مناطق مختلفة من سيرة حياة كوري تؤدّيها ممثّلة بإلقاء مقاطع من مذكّرات المدرسة، والمراهقة، والجامعة، ثم مرحلة النشاط السلمي والدفاع عن قضية تبعد عن بلدها الأم آلاف الأميال.
أمّا العرض الدنماركي "الغريب"، فيتناول فيه فنّانان دنماركيّان من أصول أفغانية؛ هما: باسير ومانيلا، تجربة اللجوء في الدنمارك. في البداية يكتشف باسير أن ما تُعلّمه إياه المدرسة والإعلام عن تاريخ بلاده لا يتعدّى صور التطرّف والتشدّد والإرهاب الديني. وحين يحاول أن يكتشف تاريخ أفغانستان بنفسه، يجد في التاريخ الأفغاني العديد من الشخصيات التي ساهمت في العلم، والطب، والشعر، والفكر. إنها حكاية لشخصية تتصالح مع ماضيها وأصولها.
في حين اختارت مانيلا أن تعبّر عن موضوعات اللجوء بقصيدة تتناول أسئلة الأنا والأنتم، النحن والهم، وتعرّج على أسئلة الأخلاق الإنسانية والوحدة البشرية في المشاعر والآلام والأسئلة الوجودية. كانت ثمّة مشكلة في العرض، من حيث اختلاف الشكل الفني بين الجزء الأول الذي قدّمه باسير، بطريقة الستاند آب كوميدي، والثاني الذي أدّته مانيلا على شكل إلقاء شعري، ما جعل من شطريه الأساسيَّين مختلفين يجمعهما موضوع هوية اللاجئ، من دون أن يشكّلا معاً صيغة العرض المسرحي.
بالنسبة إلى العرض الألماني "التحولات"، فهو نتاج ورش عمل أقامتها فرقة "سيناريو" المسرحية بدعم من "معهد غوته"، امتدّت لعشرة أسابيع، مع مجموعة من الشبّان والشابات بين 15 و20 سنة من لبنان وسورية وفلسطين. اعتمد العمل على رواية "المسخ" لكافكا.
لكن العرض لم ينجح في الدمج بين الرواية وبين حكايات المشاركين، وظلّ المبرّر السردي غير مقنع في الجمع بين ثيمة قصّة كافكا الأشهر وبين الموضوعات التي تناولها المشاركون؛ مثل: التمييز العنصري، وهوية اللاجئ، وثقافة المخيّم، والسلطة الذكورية، وسلطة العادات والتقاليد. هذه الموضوعات السياسية والاجتماعية قُدّمت إلى جانب موضوعات من قبيل: الخوف من العتمة، والرغبة في الطيران. يجد المتلقي نفسه أمام نطاق واسع من الموضوعات، ولربما كان من الأفضل انتخاب ما هو متقارب منها والتقليل من تشعّباتها.
مخرجتا العرض، لمى أمين وفكتوريا ليبتون، استخدمتا التقنيات البصرية واعتمدتا على حركة الجموع المسرحية، إلى جانب الرقصات الجماعية، فقد وظّفتا أدائياً إمكانيات وطاقات مختلفة أخرجت عن إطار سرد الممثلين.
في ما يخص عرض الدمى الفرنسي، "أصوات في الظلام"، فقد عرّف الجمهورَ بواحد من كتّاب المسرح المتميّزين، وهو المؤلّف الفرنسي من أصول رومانية ماتاي فيسنيك (1956). النصوص التي اختارها المخرج ومحرّك الدمى إيريك دينيود قصيرة، كتبها فيسنيك عن مرحلة حكم تشاويشيسكو في رومانيا، وبرع من خلالها في تصوير شخصيات العزلة العبثية، مضافاً إليها عوالم الفرقة التي تخلقها الأنظمة الشمولية بين الفرد والمجتمع.
النصوص هي ستّة اسكيتشات تناولت الاغتراب والفئات الهامشية في مجتمع يحكمه تيار سياسي واحد يتعامل مع كل المواطنين على أنهم جمهور، يتمّ التسلط عليهم عبر وسائل الإعلام كالمذياع، لذلك ضمّ العرض أكثر من مشهد سماعي يرافقه تحريك دمى أو وضع وإزالة ديكور المدينة التي يجري فيها الحدث الصوتي.
في أحد المشاهد، تطلق الدولة المشروع الوطني لغسيل الأدمغة، فتَنشأ مؤسّسات حكومية خاصة بالمشروع، وتُنشر آلات لغسيل الأدمغة في الأماكن العامة، والصالات العمومية، والمطارات ومحطّات القطار. يخضع الجميع لأربع أو خمس غسلات للدماغ في السنة. يُذيع البيان أن على المواطنين أن يُبلّغوا عن أولئك الفارّين من الغسيل، وذلك للحفاظ على التناغم الاجتماعي، ما يدفع الشركات والاستثمارت الخاصة إلى تطوير آلات لغسيل الأدمغة الفردية. يرافق هذه الحكاية بصرياً مشهد الدمى وهي تخضع لعمليات من التعذيب وغسل الأدمغة بمرافقة للبيان الصوتي.
أما عرض "مش من زمان، لبنان" فيتناول حقبة تاريخية محلية من السيرة الذاتية للفنّانة المسرحية نضال الأشقر، حيث تشكّل ضيعة "ديك المحدي" التي وُلدت ونشأت فيها مسرحاً للأحداث. تُلقي الأشقر مقتطفات من سيرتها الذاتية، تتخلّلها وقفات غنائية موسيقية بين الفقرة والأخرى، تُقدّم فيها فرقة موسيقية من أربعة عازفين على آلات العود، والناي، والدف، وتؤدّي أغانيَ من تراث المنطقة بين لبنان وسورية وفلسطين ومصر.
تقول الأشقر عن العرض: "كانت ضيعتي، ضيعةُ آبائي وأجدادي، هي مسرحي الواقعي الأول؛ حيث قابلت أولئك الذين يشبهون الشخصيات الخيالية، لكلّ منهم سره. فعرفتُ قصصاً عن سياسيين، وأبطال مناضلين يهربون من سلطة المستعمِر الفرنسي.
ربما حكايات هؤلاء الأشخاص هي ما كوّنت خيالي وأفسحت فيه مكاناً للقصص والأساطير تمزج بين الحقيقة والخيال، بين الحياة اليومية والشعرية. شخصيات الماضي تلك كانت تتوق للحرية المطلقة، حرية الجسد، وحرية التفكير والتعبير. كلّ منهم كان يرغب في استعمال مواهبه ومعارفه في سبيل الوصول إلى تلك الحرية. كلّ واحد منهم كان يرغب أن يأخذ الجميع برفقته بحثاً عن واقع أفضل، وربما لاختلاق واقع أفضل".
يحمل عرض الأشقر شحنات نوستالجيا عالية إلى ماضٍ طوباوي حيث الضيعة الصغيرة التي يتلاحم أهلها بشكل مثالي، ويسكن ماضيها رجال هم المناضل البطولي والمفكّر المثالي الملتزم بقضايا وطنه ومجتمعه. تراوح ذكريات الأشقر وحكايات سيرتها الذاتية بين الشعرية والافتتان بماضي العائلة وماضي الضيعة وماضي البلاد، لتختم عرضها بالقول: "شو كانت حلوة أيام زمان".
ـــــــــــــــــــــ
ماذا عن المسرح العربي؟
تكاد بيروت، التي تُقدّم نفسها كحاضنة للثقافة والفنون المعاصرة، أن تسقط الفنّان العربي من حساباتها. هكذا، تحتفي بالإبداع الأوروبي على اختلاف أشكاله في تظاهرات مختلفة بين الفنون المعاصرة والمسرح والسينما والعروض الأدائية والرقص، لكن الفنان العربي لن يكون حاضراً بقوّة في برامجها أو بين ضيوفها. إنها مدينة تُغرّب نفسها ثقافياً سنة بعد سنة، فمتى يمكن أن نرى مهرجاناً مخصّصاً للمسرح العربي في بيروت؟