مؤخّراً، أطلق "بيتُ الشعر الجزائري" سلسلةً من اللقاءات التي تتناول موضوع "نظرة الآخر إلى الجزائر". وكانت البداية بلقاء نُظّم، السبت الماضي في الجزائر العاصمة، حول كتاب "الجزائر في الاستشراق الروسي"، الصادر حديثاً عن "منشورات ميم"، بحضور مؤلّفه عبد العزيز بوباكير والباحث أحسن بشّاني.
في مداخلته، أشار بشّاني، وهو كاتب مقدّمة العمل، إلى ضرورة تحرير مفهوم الاستشراق من الصوَر النمطية التي صارت لصيقةً به، لدرجةٍ جعلته مرادفاً للعمالة والجوسسة والتآمر. ومن دون أن ينفي ذاتيةَ وانحياز المستشرقين وسعيهم لخدمة مصالح بلدانهم بشكل انتقائي، يعتبر صاحب "خطاب الحداثة في الفكر الفلسفي العربي المعاصر" بأن للاستشراق جوانب إيجابية عدّة؛ بحيث "لا نستطيع اختزال ظاهرة بحثية عميقة ومتشعّبة في مجموعة مُسلّمات سلبية".
يُضيف: "من المهمّ التذكير بأن المستشرقين أنقذوا أجزاء كبيرةً من موروثنا وتاريخنا، ما يجعل المستشرق خادماً للحضارة التي نظنّ بأنه يتآمر عليها، وهي علاقة عكسية يمكننا وضعها ضمن ما أسماه هيغل مكر التاريخ".
وبالعودة إلى الكتاب، يقول بشاني إنه "يُقدّم نظرةَ الآخر إلينا عن طريق مدرسة استشراقية مُغايرة، ليست غربيةً بشكل كامل، وفي الوقت نفسه لا يُمكن فصلها عن التصوّر الغربي عن الآخر، فهي تبقى مدرسة استشراقيةً مَصلحية، لكن مع لمسات شرقية تاريخية".
من جانبه، اعتبر بوباكير، أن كتابه جاء ليُسلّط الضوء على الدراسات الروسية حول الجزائر، والتي لا تزال مجهولةً، وفق قوله. يُضيف بأن الروس لا يُحبّذون مصطلح الاستشراق ويفضّلون مصطلح الاستعراب بدلاً عنه، لأن بحثهم يتركّز كثيراً على المناطق العربية والمسلمة، وقد تشكّل منذ القدم حول اتجاهين أساسيَّين: الأوّل هو تعلُّم اللغة العربية وترجمة القرآن، والثاني محاولة فهم الإسلام.
ويرى المتحدّث أن الاستعراب الروسي انصبّ، في معظمه، على المغرب العربي وعلى الجزائر خصوصاً؛ إذ فاق عدد البحوث والدراسات مائة دراسة في مختلف المجالات العلمية والفكرية.
وبحسب صاحب "الجزائر في عيون الآخر"، فإن موضوع الجزائر ظهر في الدراسات الروسية قبل تشكُّل المدرسة الاستشراقية الروسية مطلع القرن التاسع عشر، وذلك في إطار أدب الرحلة: "العديد من الباحثين والعسكريّين الروس قاموا برحلات إلى الجزائر بدايةً من منتصف القرن السابع عشر، ما يدل على أن اهتمام الروس بالجزائر لم يكن سماعاً فحسب، بل استمد معلومات قيّمة عن بيئتها وطبائع أهلها من خلال الرحلات".
يضيف بأن الرحلات التي مهّدت لظهور دراسات وبحوث علمية لم تكن منتظمة، ولا مدفوعة بعاطفة دينية كما هو الحال بالنسبة إلى الرحلات الروسية إلى المشرق العربي: "كانت الرحلات إلى الجزائر فرديةً واضطرارية؛ مثل رحلة السائح المجهول، ورحلة كوكفستوف سنة 1777".
أفرد بوباكير فصلاً في كتابه لـ "الصفحة الروسية لحياة الأمير عبد القادر (1808 - 1883)"، وهي محطّة يقول إنها ما زالت مجهولةً إلى اليوم، رغم ما كان لها من تأثير في الأحداث: "روسيا القيصرية تابعت، باهتمام، مقاومة الأمير عبد القادر لفرنسا، نظراً لتشابهها في الطرق والأهداف مع مقاومة الإمام شامل الداغستاني (1797 - 1871) للوجود الروسي في القوقاز"، يضيف أن هذه المقارنة تكتسب أهمية تاريخية، خصوصاً حين نعلم أن عبد القادر الجزائري التقى الإمام شامل وسعى للإفراج عنه بعد استسلامه.
ويلفت بوباكير إلى أن الاهتمام الروسي بالأمير عبد القادر لم ينقطع بعد المرحلة السوفييتية التي أُصدرت فيها كثيرٌ من الكتب حول حياته، أبرزها السيرة التي كتبها يوري أغناسيان؛ حيث تواصل صدور أعمالٍ تناولت سيرة الرجل.
وعن حضور الثورة الجزائرية في السرديات الروسية، يقول بوباكير إن المفكّر روبرت لاندا (1931) هو أبرز الروس الذين كتبوا عن الثورة الجزائرية، خصوصاً في كتابه "تاريخ الثورة الجزائرية" الصادر عام 1983، مضيفاً أن اهتمامه بالجزائر يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، حين تابع تطوُّر مسار الحركة الوطنية، وربط علاقات قوية قبل وبعد الاستقلال مع شخصيات سياسية وثقافية جزائرية بارزة؛ مثل: محمد الصدّيق بن يحيى، والطاهر وطار، ومصطفى كاتب، ورضا مالك، ومولود معمري.
ويعتبر بوباكير أن الخيار الاشتراكي للدولة الجزائرية بعد الاستقلال مثّل حافزاً إضافياً للباحثين الروس من أجل القدوم إلى الجزائر والتعمّق في آدابها رغم المنع الذي واجه بعضهم. هنا يذكُر أن السلطات الروسية تردّدت في السماح لـ غالينا جوغاشفيلي (1938 - 2007)، وهي حفيدة ستالين، بزيارة الجزائر للمشاركة في ملتقىً حول الروائي الجزائري محمد ديب، خوفاً من هروبها، وأنها لم تفعل ذلك إلّا بعد أن احتفظت السلطات بابنها رهينةً في موسكو، لإجبارها على العودة.
اهتمت غالينا بجمالية الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، وقسّمتها إلى ثلاثة أقسام: قبل الحرب (الثورة الجزائرية)، وأثناءها، وبعدها، كما وصفت الشعر الجزائري بأنه "لوحة تصبّ فيها في كلٍّ منسجم، أصباغٌ كئيبة ومُرّة من الألم، وألوان من الأمل الساطع".
خلال إجاباته عن أسئلة الحضور، أشار بوباكير إلى تأخُّر اهتمام الباحثين الروس بالأدب الجزائري المكتوب بالعربية؛ إذ يُعتَبر وطّار أول كاتب جزائري بالعربية تُنقَل أعماله إلى الروسية سنة 1966. في المقابل، لم تتوقّف ترجمات الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، بدايةً بثلاثية محمد ديب "الجزائر"، مروراً بـ مولود معمري، ومولود فرعون، وآسيا جبار، وكاتب ياسين وغيرهم.
أمّا بالنسبة إلى الشعر الجزائري المترجَم إلى الروسية فقد كان، حسب بوباكير، "ممثّلاً بكل اتجاهاته ومدارسه ولغاته: عربية، وأمازيغية، وفرنسية"، وقد صدرت قصائد عديدة منه في "ديوان الشعر الجزائري المعاصر" وفي "أنطولوجيات شعريّة من الشعر الآفرو -آسيوي (1981) و"شعراء شمال أفريقيا" (1886).
وبدا المحاضران متأسّفين للبرود الذي أصاب حركة الترجمة بين البلدين، مطالبَين وزارة الثقافة بالتحرُّك وإحياء بعض المشاريع التي اقتُرحت عليها من دون ردّ، خصوصاً أن "الأبحاث الروسية اتسّمت بنوعٍ من الموضوعية والإيجابية، نظراً لغياب أطماع توسّعية روسية في الجزائر".
مشروع موسوعة
يأخذ موضوع صورة الجزائر عند الآخر الحيّز الأوسع من اشتغال عبد العزيز بوباكير (1957)؛ إذ ألّف عدداً من الكتب في هذا المجال؛ من بينها: "الجزائر في عيون الآخر"، و"الأدب الجزائري في مرآة استشراقية"، و"كارل ماركس في الجزائر"، إلى جانب ترجمات من الروسية والفرنسية. قبل سنة، وجّه نداءً إلى الدولة لتمويل موسوعة بعنوان "الجزائر في عيون الآخر: من القرن 17 إلى 21". لكن نداءه لم يلقَ ردّاً.