الهايكو: محاولات توطين مغاربية

29 يناير 2018
ياويي كوساما/ اليابان
+ الخط -
هل كان باشو معلّم الهايكو الأوّل في اليابان خلال القرن السابع عشر، ومن بعده الشّاعر والتّشكيلي بوسون (1716 ـ 1784) وماساوكا شيكي (1867 ـ 1902)، يتوقّعون أنّ قصيدة الهايكو ذات الرّوح اليابانية المحتفية باللّحظات البسيطة في الطّبيعة، وفق لغة عفوية هي أقرب إلى لغة الطّفولة، وبيت واحد يتكوّن من سبعة عشر مقطعاً صوتياً، ستخترق شعرياتٍ عالمية، وتتحوّل إلى مطلب جماليّ لدى قطاع واسع من شعرائها؟

في مطلع القرن الواحد والعشرين ظهرت في الفضاء الأنكلوـأميركي المدرسة الصّورية المتأثّرة بالهايكو الياباني، إلى جانب ما يُعرف بجيل الضياع الأميركي. وفي الفضاء الأوروبي، أثار الهايكو الياباني بفلسفته المتحلّلة من الأساليب البلاغية المنمّقة شعراء السريالية والدّدائية، وانضمّ إلى الخلفيات الجمالية، التي تشكّل ملامح الشعرية الغربية على اختلاف تجلّياتها.

استغلّ شاعر الهايكو الياباني بانيا ناتسويشي (1955) هذا التقبّل العالمي لقصيدة الهايكو، ليصدر عام 1998 مجلّة "التروبادور" المتخصّصة في الهايكو، رفقة الشّاعرة سايومي كاماكورا (1953) بالموازاة مع تنظيره لفكرة "هايكو العالم"، حيث يصبح الهايكو، بحسبه، مرتبطاً بالحلم لدى النّفس البشرية في علاقتها بعناصر الطّبيعة، ويتجاوز بذلك كونه نمطاً شعرياً منسوباً إلى هوّية وجغرافيا معيّنتين إلى كونه رؤيةً إنسانيةً للوجود.

وصلت رياح الهايكو إلى المشهد العربي، عن طريق التّرجمة من اللغات الأوروبية خاصة الفرنسية والإنكليزية. وعانى في طريق وصوله إلى نخبة من المتلقّين، مثل الذي عانته قصيدة النثر عموماً. إلى أن صدر "كتاب الهايكو" الذي ترجمه الشّاعر السّوري محمد عضيمة عن اليابانية مباشرة، وصدر عن دار "التّكوين" في دمشق عام 2010 ضامّاً 1000 نصّ ونصّ. في محاولة لمسح ملامح الهايكو عبر خمسة قرون، هي عمره.

قبلها بقليل، لم يختلف المغرب عن المشرق العربي، في طبيعة ما كُتب من هايكو، إلّا من زاوية السّبق وعدد الشّعراء المنخرطين في الموجة الوافدة، وعدد المنابر المحتفية بها. فقد كانت الرّغبة مشتركة بين مجموعة من شعرائهما في خوض مغامرة مختلفة تحرّرهم من الأنماط السّائدة. غير أن انتقال هذه الكتابات إلى الدّواوين والمجلّات والملفّات المنشورة في السّنوات الأخيرة، أظهر تمايزاً بين المشهدين، بميل قطاع واسع من شعراء الهايكو المغاربيين إلى الرّؤية الصّوفية في تناول الأشياء. ومحاولة توطينه ضمن جغرافيا الذّائقة المغاربية.

نجد ذلك في تجارب سارة مصمودي وهدى حاجّي من تونس، ورضوان أعساتن وسامح درويش ومريم لحلو وبكّاي كطباش من المغرب، وعاشور فنّي والأخضر بركة ومعاشو قرور وفيصل الأحمر وعفراء قمير طالبي ونضال سعيدي من الجزائر، على سبيل المثال لا الحصر.

من هنا، بادر "بيت الشّعر في المغرب" نهاية شهر كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي في مدينة إفران، إلى تنظيم ملتقى جمع خمسة وعشرين شاعرَ هايكو حمل شعار "الهايكو مغربيّ أيضاً"، في إشارة إلى رهان توطين هذه الحساسية الشّعرية الوافدة من الشّرق الأقصى.

يقول الشّاعر المغربي سامح درويش لـ"العربي الجديد"، إنّه منشغل بكيفية كتابة ما يُعبّر عن اختلاجاته، وما يعتقد أنه اختيار جمالي يعبّر عن عمقه الرّوحي وذائقته في ممارسة وجوده الخاص، وممارسة ميوله في الكتابة، بعيداً عن أيّ اجترار، بل عن أيّ انضباط لأشكال فنّية لم تعد تتيح له إمكانية التعبير عمّا يعتمل في نفسه، مؤكداً أن "الشّعر هو ارتياد مستمرّ لعوالم ومناطق عذراء في الذّات الإنسانية".

من هنا، يقول صاحب ديوان "خنافس مضيئة": "وجدت نفسي أكتب الهايكو تلقائياً، في سياق تجربة إبداعية متدرّجة، بعد أن تخلّيت عن بحور العروض مبكراً، ثمّ عن التفعيلة في ما بعد، لأستقر في كتابة الشّعر كما يحلو لي ذلك، بعيداً عن أيّ كوابح وإملاءات خارج - نصية.

ليصبح الشّعر في نظري طريقة للاحتكاك بالكون والكائنات من حولي". ويضيف: "هذا هو التصوّر الجمالي الذي قادني إلى الهايكو، الذي ظللت لفترة أكتب في مداره، وما ديواني "القهقهات" المنشور سنة 2010 إلا التجربة التي قرّبتني أكثر من الهايكو، من خلال قصائد قصيرة مكثفة جدّاً".

يعتقد سامح درويش أن ما يُكتب من هايكو في الفضاء العربي، لن يكون له موقع ولا معنى ما لم يَسْتَقِ من الثّقافات المحلّية وأرصدة شعوبها الرّمزية والجمالية، ليلتحم بالثّقافة الإنسانية، ليس كنسخة مكرورة، بل كاقتراح جمالي من ثقافة لها خصوصياتها وصبغياتها الرّوحية والمعرفية، "مع الإبقاء على روح الهايكو المتمثّلة في البساطة والآنية والتحلّل من زخارف البديع دون إهمال روح البلاغة المتجددة، وذلك حفاظاً على هوّية الهايكو التعبيرية بالجوار مع أشكال شعرية مماثلة لكنها مختلفة، مثل الومضة والشذرة والتوقيعة والتوشية".

سألته "العربي الجديد" عن مدى قابلية روح الهايكو الياباني لمحاولة الخروج عليها من طرف الشّعراء الأجانب عنها، فقال إنّ هناك مقوّمات عالمية لشعر الهايكو شبه متفق عليها صراحة حيناً وضمنياً حيناً آخر، لا يمكن التخلّي عنها وإلا فقد الهايكو هويته الفنية، مثل الآنية والمشهدية وتضمين "الكيكو" أي ذكرالفصل الذي حدثت فيه الكتابة، "غير أنّ الهايكو اليوم لم يعد تعبيراً فنّياً يابانياً محضاً، بل أصبح مطروقاً في معظم شعريات العالم بدون أيّ مركّب نقص، باعتبار أنّ الفنون هي ملك للإنسانية جمعاء تتفاعل وتتطوّر بتلاقح الثقافات والحضارات، بل إنّنا أصبحنا نجد عدداً من الشّعراء اليابانيين أنفسهم يتجاوزون قواعد الهايكو الكلاسيكي بمقوماته المتعارف عليها، إلى هايكو حديث يُسمّى "جنداي هايكو"، إضافة إلى انفتاح الهايكو أو ما أصبح يسمى بالـ"سنريو" على المواقف الإنسانية والاجتماعية، بعد أن كان منحصراً في رصد العلاقة بين الإنسان والطبيعة".

من جهته، يقول الشّاعر الجزائري عاشور فنّي إنه كان دوماً يعتقد أن للتجربة الشّعرية علاقة بالتجربة الصّوفية، بصفتها معايشة استبطانية لتجربة إنسانية تتجاوز اللّغة. "تلك كانت رؤيتي في نصوصي الأولى. ثمّ اصطدمت بمشكلة شخصية في الكتابة هي تجاوز حاسّة السّمع إلى حاسّة البصر. أي الانتقال من الشّفوية إلى الكتابة، ومن القراءة السّمعية إلى القراءة البصرية.

وفي أثناء بحثي عن ذاتي وعن نصّي قراءةً في تجارب الآخرين، اكتشفت المدرسة التّصويرية الأميركية في بدايات القرن العشرين، حيث قادتني بحوثها إلى اكتشاف العلاقة بين الحداثة الشّعرية الغربية وتجربة الهايكو في الشّرق الأقصى. إذ كان باشو مؤسّس قصيدة الهايكو صوفياً فيما كان تلامذته ونقّاده تصوريين... لقد اكتشفت أنّني ألتقي في بعض نصوصي مع هذا التيار تجربةً قبل أن أتعرّف عليه معرفيًا".

ويضيف فنّي: "يقف الهايكو على النّقيض من البلاغة الطنّانة والأصوات العالية واللّغة السّميكة. الحدّ الأدنى من الحروف ومن اللّغة يكفي لتفجير نواة التّجربة الشّعرية الخلّاقة بعيداً عن البديع والبيان والتمجيد والمديح أو الهجاء والتبخيس المبالغ فيه. لحظة صفاء مع الذّات وصداقة مع العالم. أن تكون في الحياة، لحظة الكتابة، من العالم لا فيه ولا خارجه. إنّ فلسفة الهايكو هي أقوى ما في التجربة".

يقول محدّث "العربي الجديد": "منذ البداية، اتجهت إلى نصوص الحدّ الأدنى من اللغة. ثمّ شرعت في كتابة نصوص وفق وعيي لجماليات الهايكو دون أن أسمّيها بهذا الاسم. وفي 2001 خضت تجربة "أعراس الماء"، بعد تجربة "رجل من غبار" التي حوّلتني نهائياً. وتغيّرت علاقتي بنفسي وبنصّي، باللّغة وبالعالم. خاصّة في تجربتي "هنالك بين غيابين يحدث أن نلتقي" الصّادرة عام 2007".

وتنفي الشاعرة الجزائرية عفراء قمير طالبي لـ"العربي الجديد" أن تكون ضمن من ركبوا موجه الهايكو لتحقيق اختلاف شكلي، ذلك أنّ انخراطها في كتابة الهايكو، بحسبها، هو ثمرة لانسجامها مع طبيعته، "فاللّمسة الخاصّة أو ما أسمّيه عمليّة التّنكيه هو ما يصنع الاختلاف الإبداعي ويُراهَن عليه". وتضيف: "قد أخيّب بعض التّقاليد المضمرة والمعلنة في الهايكو الياباني، ولا أدّعي أنّي أحمل مهماز الأسلوب، ولكنّي أحاول تجاوز مسألة الوعي التاريخي تحديداً، إلى مسألة الوعي الجمالي في شموليّته".

سألناها عن مدى استعداد الذّوق العربي لاحتواء هذه الحساسية، فقالت إنّ من تربّى على شعرية عربية غنائية متخمة بالمجاز والبلاغة، ومتخلّقة داخل نظام صوتي/ موسيقي موزون ومقفّى، وعلى مرجعية خطابية مهيمنة تقوم أساساً على مركزية الأنا، سيكون عصيّاً عليه أن يتحوّل إلى الهايكو، "ولكن قدر كلّ جديد المرور بفترة حرجة قبل أن يتبوّأ مقاماً ومنزلاً، وقد يظلّ مجرّد غريب مستهجن. ألم يحدث هذا مع قصيدة النثر؟".

المساهمون