هناك قلة وشُحٌّ في الدراسات أو الإصدارات التي تناولت القبيلة في سورية موضوعاً للبحث الأنثروبولوجي في الأدبيات العربية، غلب على هذه الدراسات المعدودة الطابع الاستعراضي في المعلومات لتوثيق القبائل التي تسكن سورية، وأماكن توزعها الجغرافي أو الكتابة عن زعمائها ومشايخها، من دون أن تقدم تحليلاً معرفياً لتطوراتها الاقتصادية وعلاقتها مع السلطات المركزية. لذلك تأتي هذه الدراسة لتسد نقصاً أكاديمياً في الأدبيات العربية حول القبيلة في سورية.
القبيلة مجتمع متجانس في سلوكه وهوياته السياسية، هكذا تعاملت الورقة مع القبيلة في سورية في عصرها الراهن. كما تجد الباحثة أن "التحديد الذاتي للهوية العشائرية ازداد في سورية في السنوات الأخيرة، وكانت مشاركة العشائر في الانتفاضة السورية بارزة". وهنا مكمن الجدل البحثي في الدراسة.
وجدت الباحثة أن القبيلة خلال الحكم العثماني للمشرق العربي حافظت على علاقات وثيقة بالمراكز الحضرية للسطلة العثمانية، وكذلك بمؤيديها في البادية، بمعنى أن هناك تجانساً سياسياً في العلاقة القبلية مع السلطات المركزية في إسطنبول، يسودها التحالف، يصوغها شيخ القبيلة.
ونعتقد أنه من الطبيعي أن تشكل القبيلة إطاراً للتنظيم الاجتماعي لمجموع الأفراد المنضوين في عضويتها من دون تعريف أبنائها لأنفسهم بهويات سياسية، قبل نشوء الدولة الوطنية السورية في عام 1946. فأبناء القبيلة، حالهم حال باقي أهالي بلاد الشام في الحقبة الاستعمارية القديمة (العثمانية)، لا يشعرون بانتماء وطني لدولة غير موجودة، محكومة من قبل سلطة أجنبية مركزية في إسطنبول، لا تقدم لهم أية خدمات، تطالبهم بدفع الضرائب فقط. وفي المقابل، أشارت الباحثة في الدراسة إلى أنه في مطلع القرن العشرين، درس غالبية زعماء العشائر البدوية في المدرسة العسكرية العثمانية، خاصة العشائر العربية، وقدمته على أنه دليل للتحالف بين السلطة العثمانية وزعماء القبائل.
إلا أنه يجب الانتباه إلى أن هذه المدرسة العسكرية أنشئت مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر، وذلك مع موجة الإصلاح في السلطنة العثمانية وقوانين التنظيمات في القرن التاسع عشر، بعد انتشار التمردات والاضطرابات الاجتماعية، وتراجع هيبة السلطنة العثمانية في المشرق العربي. حيث عكس السلوك العثماني في تشكيل المؤسسة العسكرية وانتساب أبناء زعماء القبائل إليها نمطاً استعمارياً في سياساته وتصوراته، واستخدامها كأداة من أدوات السيطرة والتغلغل في البوادي السورية، تقوم على ديمومة كسب ولاءات زعماء القبائل، بعد توسع التململ العربي من الحكم العثماني.
تورد الباحثة سرديات عن انقسام بين القبائل في الموقف من المملكة السورية (1918) وبدايات الاحتلال الفرنسي لسورية الذي استكمل في عام 1920. لكنها تتعامل مع هذه الانقسامات على أنها انقسام قبلي، أي المكوّن هو القبلية الموحدة السياسية، تباينت فيه الآراء السياسية بين القبائل في الموقف من المملكة السورية والاحتلال الفرنسي.
لكن الانقسام في هذه المرحلة التاريخية الجديدة، كان في بعض الحالات أعمق من انقسام بين القبائل إلى اختلاف ضمن القبيلة ذاتها. وهو ما مثل تراجعاً لدور القبيلة الكبرى ممثلًا عن جميع أفخاذها عن المرحلة التاريخية السابقة، في مقابل صعود دور القبائل والمشايخ الأقل شأناً.
روت الباحثة سرديات عن مشاركة بعض القبائل في الثورة السورية الكبرى 1925-1927 ضد الاحتلال الفرنسي، لكنها لم تبتعد عن التعامل مع القبيلة جماعة واحدة. وأوحت بأن القبائل كانت مؤيدة للاستعمار الفرنسي، فقد أوضحت أن زعماء العشائر كانوا يتململون من تدخل الوطنيين في قبائلهم، ولذلك لم يحضر إلا نائب واحد من أصل تسعة نواب في جلسة تصويت البرلمان السوري لإنهاء حكم الانتداب الفرنسي.
وهذا ما يعيدنا إلى فرضيتنا السابقة، بأن القبائل والمشايخ الأقل شأناً أصبحوا متحررين من هيمنة القبيلة الكبيرة، وأصبحوا يتصرفون سياسياً بشكل مختلف. فالقبائل التي شاركت في الثورة السورية الكبرى في السويداء كانت من عشائر بدوية تدعى (الساردية والسلوط)، بينما شارك بدو غير نظاميين في الثورة من قبيلة "الموالي" في سيطرة الثوار على مدينة حماة، عدا عن مشاركة عدد من القبائل في الثورة في محافظة دير الزور.
قدّمت الباحثة معلومات ذات أهمية كبيرة عن الإطار القانوني لتعامل دولة الاستقلال الوطنية السورية مع القبائل في سورية، حيث اعتبرتها شكلاً من أشكال التخلف والرجعية، ما سبب هجرة أفخاذ من القبائل إلى السعودية والعراق، والذي استمر بعد سيطرة حزب البعث على السلطة في عام 1963 تبعًا لقوانين الإصلاح الزراعي. لكن ما يغيب عن الدراسة هو أن التسييس الحزبي للقبائل بزعاماتها التقليدية أو الفرعية أو أفرادها، قد بدأ منذ استقلال سورية، حتى بدأت منطقة يسكنها سوريون من قبائل مختلفة كدرعا توصف بأنها "خزان البعث"، كما تمتع حزب البعث في مناطق قبلية كدير الزور والرقة بشعبية واسعة. وكذلك بدأ الإسلام السياسي يدخل إلى القبائل ذاتها في إدلب وريف حلب وريف حماة، وخاصة بعد نكسة حزيران/يونيو عام 1967. كذلك لم تكن القبائل بعيدة عن التأثيرات اليسارية والليبرالية للأحزاب الوطنية السورية المتعددة.
شرحت الباحثة كيف أن ما يسمّى "الحركة التصحيحية"، أي استلام حافظ الأسد السلطة في عام 1970، أعادت الاعتبار للزعامات القبلية، بل أُعيد الزعماء الذين هاجروا إلى السعودية والعراق إلى وطنهم الأصلي سورية. ومنحوا مناصب عليا في الدولة ومجلس الشعب السوري. فأعاد حافظ الأسد التحالف مع القبائل بعد محاربتها من قبل الحكومات الوطنية بعد الاستقلال والسنوات الأولى من حكم حزب البعث، بمنحها المناصب السياسية، ودعم أو السكوت عن أنشطتها الاقتصادية الخاصة، ولا سيما التهريب.
لكن الباحثة اكتفت بتوصيف العلاقة بين زعماء القبيلة والسلطة، ولم تأخذ بعين الاعتبار التغيير السياسي والاجتماعي الذي طاول أبناء القبيلة. فتبعًا لحالة الاستبداد السياسي في سورية وفرض نظام الحزب الواحد، غابت الحالة الحزبية عن القبائل كباقي فئات الشعب السوري. وتبعًا لنظام الزبائنية الجديد تحولت القبائل من حالة التسيّس التدريجي الذي كان يتغلغل بها إلى بنية داعمة للنظام السياسي القائم في سورية أو صامتة لا تقترب من العمل السياسي، مهتمة بأنشطتها الاقتصادية، وتدبير الشؤون الاجتماعية لأفراد القبيلة. لكن في أدنى مستويات القبيلة، سواء أكانت من القبائل الكبرى أو الأقل شأنًا، حصل تغير في نظرة الأفراد لعضويتهم في القبيلة بعد تخلخل هذه العلاقة في العقود السابقة كما أسلفنا، وخاصة مع نجاح الدولة في توطين البدو ورفع مستواهم التعليمي.
وفي ذات الوقت، بدأ أعضاء القبيلة بصفتهم سوريين يطرحون مسائل حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن هذه النقطة، بدأ الانفصام التدريجي بين زعيم القبيلة والأفراد السوريين المنضوين تحت مسمى القبيلة؛ وهو ما استمر في عهد بشار الأسد. يوضح شيخ عشيرة البوفرج، من قبيلة العقيدات العلاقة بين السلطة والقبيلة في سورية قبل انتفاضة عام 2011 بأنها "كانت علاقة جيدة جدًا. وحتى عندما تراجع وضع شيوخ العشائر بقي لشيخ العشيرة كرامة وقيمة لدى الدولة. مثلًا عمي رحمه الله كان يقابل أي محافظ وأي وزير لحل مشكلة ما لعشيرته.... لجماعته. أيضًا باقي شيوخ العشائر كذلك. في موضوع التجارة كنّا مثلنا مثل أي مواطن، لكن كنا نستفيد من وضعنا، كنا نحصل على خدمات تسهل أمورنا".
وفي الانتفاضة السورية 2011، استمرت الباحثة بالتعامل مع الإشكاليات الاجتماعية والسياسية على أسس قبلية في سورية، بالربط بين المواقف السياسية والانتماء القبلي للفرد السوري من الانتفاضة/النظام السياسي. واعتبرت أن انتخاب أحمد الجربا وهو عضو في عائلة عجيل الياور شيخ مشايخ شمر، رئيسًا للمجلس الوطني السوري، أحد الدلائل على فاعلية القبائل في الانتفاضة، كما وجدت بخروج المحتجين من مناطق يسكنها سوريون من قبائل مختلفة، وحملهم السلاح دليلًا آخر على "الفاعلية الثورية" لقبائل في سورية. لكن لا وجود للسوريين في خطابها الأكاديمي إلا بصفتهم القبلية، حتى وإن هتفوا "واحد واحد الشعب السوري واحد".
يوضح برهان غليون كيفية انتخاب الجربا رئيسًا للمجلس الوطني "الجربا ليست له عشيرة. هو يعيش في السعودية، ونشاطه الاقتصادي ليست له أية علاقة بالعشيرة، إنما ما زالت ثقافته بدوية. كان يشتغل مع الحريري، وعندما جاء إلى المجلس الوطني كان تابعًا للحريري وليس لعشيرته... هذه علاقات فضفاضة ليست لها علاقة بالعصبية والحمية العشائرية، هذه عبارة عن استثمار لعلاقات".
أما عن تجانس الموقف السياسي في القبيلة تجاه الانتفاضة السورية، فقد حدث انقسام ضمن القبيلة نفسها، بل في عائلة الشيخ ذاته. أما عن مشاركة "العشائر" في الانتفاضات، فيقول شيخ عشيرة البوفرج حول موقف العقيدات من المظاهرات "بالنسبة لقبيلتنا انقسمت إلى قسمين، قسم مع الثورة وقسم مع النظام. لكن ليس فقط العقيدات لأنه وقع نفس الشيء في باقي القبائل، ولكنّ قسماً يسيراً كان مع بشار... شيخ القبيلة لا يقدر أن يفرض على أحد من أفراد القبيلة أن ينتمي للنظام أو ينتمي للثورة. هذا شيء شخصي. ابن الريف وابن القبائل تصرف بشكل شخصي، الشيخ لا يستطيع أن يقول لأحد إجباري عليك أن تصبح مع النظام أو إجباري تصبح مع الثورة ، الأمر اختياري".
ومن محصلة ما سبق، نستطيع القول إن الانتفاضة السورية، سمحت للسوريين المنحدرين من الأصول القبلية بتخيل أنفسهم أفرادًا سوريين، بعيدًا عن الانتماء القبلي لصالح انتماءات سياسية جديدة لم تكن متوفرة سابقًا بعد عقود طويلة من التعليم والتطور الاقتصادي والعمراني والهجرة من الريف إلى المدينة، وهذا لا يعني انفصالهم الثقافي عن القبيلة، ولكنه لا يحدد مواقفهم السياسية. فانقسم المواطنون في المناطق التي يقطنها سوريون من أصول قبلية بين تيارات سياسية مختلفة التوجهات والإيديولوجيات (السلطة السورية– تنظيم القاعدة – سلفية تكفيرية "جبهة النصرة" – سلفية جهادية "أحرار الشام"... – إخوان مسلمون – الجيش الحر – قلة من الليبراليين واليساريين).أجمل ما صور هذا التحول السياسي في القبيلة في سورية مع حفاظها على موروثها الثقافي، رواية جديدة للروائي السوري مصطفى خليفة "رقصة القبور".
إذًا تعاملت الباحثة في هذه الدراسة مع القبيلة في سورية كأنها كيان سوسيولوجي موحد، لم يتغير في تفكيره السياسي عبر التاريخ الطويل، مرهون بمواقف زعيم القبيلة الذي يرسم وينظم حياة أبناء القبيلة اجتماعيًا وسياسيًا. يرتبط هذا الإشكال المعرفي بضرورة تحديد تشكل مجموعة من البشر يرتبطون بعلاقات قرابة بدرجاتها المختلفة، لمجتمع محلي، والذي أبدع فيه الأنثروبولوجي موريس غوديليه، حيث يوضح أن القرابة لا تشكل "مجتمعًا محليًا"، وإنما يرتبط ذلك بالعلاقات السياسية والدينية بين هؤلاء البشر.
ولذلك، سوف لن نجد قبائل تقوم علاقاتها على القرابة والنسب ذات سلوك منسجم، وإنما مجتمعات محلية قبلية متشكلة عبر تعقيدات اجتماعية- سياسية، لها مواقف وسلوكيات سياسية متضاربة. وهذا ما ينطبق على التطور التاريخي للقبيلة السورية، فقد تمرحلت تاريخيًا من كونها مجتمعًا عضويًا مستقلًا في انتماء الأفراد إليه، يطلب من أبنائه ولاءات سياسية معينة إلى كيان ثقافي يشكل جماعة محلية في المجتمع السوري، لا يفرض على أفراده مواقف سياسية، حتى وإن رغب هو في ذلك.
* باحث سوري