أعمال عبد الأمير جرص.. ليست مقدّمة

14 مايو 2017
(عبد الأمير جرص في مقهى السنترال في عمّان)
+ الخط -

لم‭ ‬يكن‭ ‬عبد‭ ‬الأَمير‭ ‬جرص‭ ‬يحب‭ ‬المقدِّمات،‭ ‬ولولا‭ ‬فجيعة‭ ‬رحيله‭ ‬المفاجئ،‭ ‬بحادث‭ ‬دراجة‭ ‬هوائية‭ ‬عند‭ ‬منتصف‭ ‬أَيار/ ‬مايو‭ ‬2003‭ ‬في‭ ‬منفاه‭ ‬الكَنديّ؛‭ ‬لولا‭ ‬ذلك‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬أَن‭ ‬أَضع‭ ‬هذه‭ ‬الإشارة،‭ ‬التي‭ ‬أَرجو‭ ‬اعتبارها‭ ‬ملاحظةً‭ ‬في‭ ‬الهامش‭ ‬أَملتها‭ ‬الضرورة،‭ ‬وليست‭ ‬بأَية‭ ‬حال‭ ‬محاولة‭ ‬لتقديم‭ ‬شعر‭ ‬عبد‭ ‬الأمير‭ ‬جرص‭ ‬أَو‭ ‬تقديماً‭ ‬للكتاب. ‬فهذا‭ ‬ديوان‭ ‬كما‭ ‬شاء‭ ‬له‭ ‬صاحبه‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬ربيع‭ ‬عام‭ ‬1965،‭ ‬يُنشر‭ ‬بلا‭ ‬مقدّمة؛‭ ‬إذ‭ ‬طالما‭ ‬اعتقد‭ ‬عبد‭ ‬الأَمير‭ ‬أَنّ‭ ‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬من‭ ‬أَية‭ ‬سلطة،‭ ‬واعتبر‭ ‬مقدّمات‭ ‬النقّاد‭ ‬للمجموعات‭ ‬الشعرية‭ ‬مدعاة‭ ‬للتندُّر.

‬وعليه،‭ ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬الإشارة‭ ‬سوى‭ ‬هامش‭ ‬يبسط‭ ‬أَمامكم،‭ ‬وباختصار‭ ‬شديد،‭ ‬حكاية‭ ‬هذه‭ ‬الأَعمال‭ ‬الشعرية‭ ‬وملابسات‭ ‬نشرها‭.‬

عندما‭ ‬غادر‭ ‬عبد‭ ‬الأمير‭ ‬جرص‭ ‬عمّان‭ ‬عصر‭ ‬يوم‭ ‬عاصف‭ ‬شديد‭ ‬الأمطار‭ ‬من‭ ‬شباط‭/ ‬فبراير‭ ‬2001‭ ‬ــ‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الانتظار‭ ‬فيها‭ ‬ــ‭ ‬إلى‭ ‬كندا‭ ‬و"استقرّ"‬‭ ‬في‭ ‬ثلوج‭ ‬مدينة‭ ‬"إدمونتن"‮، كان‭ ‬قد‭ ‬سلّمني،‭ ‬قبل‭ ‬أَيام‭ ‬من‭ ‬سفره،‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬مرقوناً‭ ‬ومرتَّباً‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬كتاب،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬أَوّليّ‭ ‬هو‭ ‬‮"‬مختار‭ ‬الفصول‭ ‬الخمسة‮‬‭ ."‬وكما‭ ‬يشي‭ ‬الاسم‭ ‬فإنه‭ ‬احتوى‭ ‬على‭ ‬خمس‭ ‬مجموعات‭ ‬شعرية،‭ ‬اختار‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬أَراده‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬حتّى‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أَنه‭ ‬أَهمل‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة‭ ‬لم‭ ‬يشأ‭ ‬أَن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإصدار؛‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬عبد‭ ‬الأَمير‭ ‬آنذاك‭ ‬أَنه‭ ‬سيكون‭ ‬إِصداره‭ ‬الأَخير،‭ ‬وأَنه‭ ‬سيظهر‭ ‬بعد‭ ‬عقد‭ ‬ونيّف‭ ‬من‭ ‬رحيله‭" ‬‮.‬ "قصائد‭ ‬ضد‭ ‬الريح‮" (3991)،‬ و"أَحزان‭ ‬وطنية‮‬" (7991)، كانتا‭ ‬قد‭ ‬صدرتا‭ ‬في‭ ‬أَثناء‭ ‬الحصار‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬(طبعة‭ ‬شخصية،‭ ‬بطريقة ‬"الاستنساخ" ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين ‬استعملوها‭ ‬لنشر‭ ‬شعرهم‭ ‬إبان‭ ‬الحصار)‭ ‬وأَكسبتاه‭ ‬مكانة‭ ‬مميزة‭ ‬بين‭ ‬شعراء‭ ‬العراق،‭ ‬وجعلتاه‭ ‬محبوباً‭ ‬من‭ ‬جمهور‭ ‬واسع‭ ‬ــ‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬التقيت‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬عمّان‭ ‬تلك‭ ‬بشعراء‭ ‬شبّان‭ ‬وقرّاء‭ ‬يحفظون‭ ‬قصائد‭ ‬هاتين‭ ‬المجموعتين‭. ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إِلى‭ ‬ثلاث‭ ‬مجموعات‭ ‬أُخرى‭ ‬جديدة‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬نصوصها‭ ‬قد‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات،‭ ‬والأرجح‭ ‬أَنّ‭ ‬قسماً‭ ‬كبيراً‭ ‬منها‭ ‬كتب‭ ‬بعد‭ ‬مغادرته‭ ‬العراق‭ ‬عام1997. ‬

كنت‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬عبد‭ ‬الأَمير‭ ‬هذه‭ ‬الأَعمال،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬إِنّ‭ ‬نشرها‭ ‬بات‭ ‬مسؤوليتي‭. ‬كنت‭ ‬أَعرف‭ ‬كبرياءه‭ ‬وأنه‭ ‬لن‭ ‬يقدّمها‭ ‬للنشر‭ ‬لدى‭ ‬أَية‭ ‬جهة‭ ‬كانت. شظف‭ ‬سنوات‭ ‬الحصار‭ ‬واللجوء‭ ‬وما‭ ‬يجعل‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬يخفضون‭ ‬جناحهم‭ ‬كان‭ ‬يجعل‭ ‬عبد‭ ‬الأمير‭ ‬أَكثر‭ ‬اعتداداً‭ ‬وكبرياءً‭.‬

بدا مطمئناً‭ ‬لوعد‭ ‬صديقه.‭ ‬لكن‭ ‬أَسباباً‭ ‬مختلفة،‭ ‬منها‭ ‬تردد‭ ‬عبد‭ ‬الأَمير‭ ‬بعد‭ ‬وصوله‭ ‬إلى‭ ‬كندا‭ ‬بشأن‭ ‬نشر‭ ‬المجموعات‭ ‬وتفكيره‭ ‬بصيغ‭ ‬أخرى‭ ‬للنشر،‭ ‬وعثوره‭ ‬على‭ ‬أَخطاء‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬رقن‭ ‬القصائد،‭ ‬ورحيله‭ ‬الفاجع‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بقليل،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬وقوع‭ ‬صديقه‭ ‬في‭ ‬الحيرة‭ ‬نفسها؛‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬أَسباب‭ ‬أَخّرت‭ ‬صدور‭ ‬هذه‭ ‬الأَعمال،‭ ‬لتظهر‭ ‬الآن‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المدة‭ ‬من‭ ‬رحيل‭ ‬صاحبها.‭ ‬

ولكن‭ ‬ما‭ ‬‮"يخفّف‮"‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬هذا‭ ‬التأخير‭ ‬أَن‭ ‬أعمال‭ ‬عبد‭ ‬الأَمير‭ ‬لم‭ ‬تفقد‭ ‬حرارتها‭ ‬وراهنيتها‭.‬ وهي‭ ‬تنشر‭ ‬هنا‭ ‬كما‭ ‬أرادها‭ ‬صاحبها‭ ‬وبالترتيب‭ ‬الذي‭ ‬اختاره‭.‬ وهنا‭ ‬يجدر‭ ‬التنويه‭ ‬أَن‭ ‬عبد‭ ‬الأمير‭ ‬جرص‭ ‬كتب‭ ‬قصائد‭ ‬أُخرى‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الأَعمال،‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬كندا،‭ ‬سننشرها‭ ‬قريباً. كما‭ ‬ضمّ‭ ‬دفتره‭ ‬الشعري‭ ‬الأخير‭ ‬مسوَّدات‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة‭ ‬كانت‭ ‬قيد‭ ‬العمل،‭ ‬ولم‭ ‬يصل‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬صياغة‭ ‬نهائية‭ .‬وهنا‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬شكر‭ ‬جميع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬ومحبّي‭ ‬عبد‭ ‬الأمير‭ ‬الذين‭ ‬شاركوني‭ ‬الاهتمام‭ ‬بصدور‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬بما‭ ‬تستحقه‭ ‬من‭ ‬تدقيق‭ ‬وانتباه،‭ ‬وبشكل‭ ‬خاص‭ ‬المهندس‭ ‬قاسم‭ ‬جرص،‭ ‬شقيق‭ ‬الشاعر‭.‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬أَعمال‭ ‬عبد‭ ‬الأمير‭ ‬جرص‭ ‬المنشورة‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الأخذ‭ ‬بالاعتبار‭ ‬أَنّ‭ ‬صاحبها‭ ‬شاعرٌ‭ ‬شاب،‭ ‬وأَنّ‭ ‬القسم‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬المؤثر‭ ‬كتبه‭ ‬قبل‭ ‬أَن‭ ‬يصل‭ ‬عامه‭ ‬الثلاثين. كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬على‭ ‬حادثة‭ ‬الدراجة‭ ‬الهوائية‭ ‬لم‭ ‬تفقدنا‭ ‬ذرّة‭ ‬من‭ ‬شعورنا‭ ‬بخسارته‭ ‬ــ‭ ‬شاعراً‭ ‬عند‭ ‬أَوج‭ ‬كفاءته‭ ‬الشعرية‭ ‬وإنساناً‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لشهامته‭ ‬وشمائله‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬عبد‭ ‬الأمير‭ ‬جرص‭ ‬شاعراً‭ ‬فحسب،‭ ‬كان‭ ‬تجسيداً‭ ‬حيّاً‭ ‬للشعر‭ ‬وللعراق‭ ‬ــ‭ ‬البلد‭ ‬المُفَضِّل‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬بأَسره.‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الندرة‭ ‬الذين‭ ‬يصيرون‭ ‬بلادَهم‭ ‬ويكثّفون‭ ‬أَصفى‭ ‬وأَعمق‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬شعوبهم‭.‬

آخر‭ ‬العنقود‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العراقي‭ ‬يقف‭ ‬كتفاً‭ ‬إلى‭ ‬كتف‭ ‬مع‭ ‬الجواهري‭ ‬والسيّاب،‭ ‬مبتسماً‭ ‬ومرتبكاً،‭ ‬ومحنيّ‭ ‬القامة‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬صخرة‭ ‬العراق‭ ‬التي‭ ‬حملها‭ ‬حتّى‭ ‬آخر‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬حياته‭.‬
من‭ ‬عرفوا‭ ‬عبد‭ ‬الأَمير‭ ‬جرص‭ ‬يعرفون‭ ‬أَي‭ ‬شاعرٍ‭ ‬كان‭.‬ ومن‭ ‬سيقرؤون‭ ‬هذه‭ ‬الأَعمال،‭ ‬سيدركون‭ ‬
أَي‭ ‬خسارة‭ ‬نقصد‭.‬ 



* هامش في الأعمال الشعرية لعبد الأمير جرص الصادرة هذا الأسبوع عن "دار الفيل" في القدس المحتلة

دلالات
المساهمون