الترجمة والبلاغة

02 ابريل 2017
لوسيو فونتانا/ الأرجنتين
+ الخط -

اقترنت البلاغة دوماً بالأدب شأنَ الترجمة، وإنْ كانت لها مجالاتٌ أخرى غير أدبية وغير نصّية تتحقّق فيها، كما الحال في الخطب السياسية وغيرها، وهي في ذلك قرينةُ الترجمة أيضاً، التي يُمكن أن تتحقّق في مجال غير نصّي؛ كحال الترجمة الفورية أو التتابعية التي تلي الكلام فيكون تحقُّقها هي الأخرى شفهيّاً.

ظهرتِ الترجمة والبلاغة إلى الوجود، كما نعلم، قبل أن يظهر التنظير لهما، وتميَّزتا بالعفوية والطبيعية قبل أن توجَد خطاباتٌ وخطاباتٌ مضادة تنتصر لاختيار معيَّن في ممارستهما، وقبل أنْ يظهر التنظير لهذه أو تلك؛ واشتُهِرتا بكونهما اشتغاليْن أدبييْن يَتَّفق كثيرون على أنهما ظَلّا يُعَدّان فنَّيْنِ منذ قرون.

والأكيدُ أن البلاغة صنو الترجمة، فهي لا تختصّ بمعارف أو علوم بعينها، وهي في ذلك تُشبه الترجمة التي لا تختصّ بمعارف أو علوم معيَّنة، وإنما يكون عليها أن تُجابه أصنافاً من التأليف التي تصْدر عن الإنسان لتنقلَها من ثقافة إلى أخرى.

وإذا كان أرسطو في مستهلّ كتابه "الخطابة" قد حسم في شأن البلاغة بِعَدِّها فَنّاً، فإن الترجمة استعصتْ على كثير من المنظّرين الذين سعوا إلى إقحامها في خانة العلوم، واستمرَّتْ تُعد فنّاً هي الأخرى، بِدليل مُزاولتِها إلى الآن من قِبَل مترجِمين مَهَرة لم يطرقوا أبواب مؤسّسات الترجمة من كليات ومعاهد ومدارس.

وكما أن البلاغة -وفق أرسطو- لا تختصّ بمعرفةٍ بعينها، فهي قد تخترق الخطابات المختلفة، فتحضر في التاريخ والدين والأدب والفلسفة وعلم النفس وغيرها من المعارف، فإنّ الترجمة من جهتها لا تقتصر على نقل وتحويل نصوص تختصّ بمعرفة مُعيّنة، وإنما تُباشر كلّ المعارف المذكورة.

ويَجمع الإقناعُ بين البلاغة والترجمة بِصِفته خاصية جوهرية مشتركة؛ فالبلاغة تتوسّل به وبسحر الأسلوب في مخاطبة المتلقي -الذي كان في الأصل قاضياً ثم صار متلقِّياً- للتأثير فيه باستنفار البعد الجمالي لديه، لتكون شبيهةَ الترجمة التي تتخذ هدفَها الأسمى، عند معظم المُنَظِّرين، إقناعَ المتلقي في اللغة المترجَم إليها بأنّ النَّصَ الصورةَ هو نظيرُ الأصلِ، وتُوظِّفُ من الأساليب ما يخدم هذه الغاية. ويكشف استهدافُ التأثير الجماليّ في الفنَّيْن عن أنهما يرومان تحقيق المتعة أيضاً لدى المتلقي، وهو مشترَكٌ آخرُ بينهما.

إذن، البلاغة في تحقُّقها النصي نظيرة الترجمة التحريرية، تبرز عَبْرَه فِعْلاً تواصلياً يُضارع الترجمة حين يتغيّى التأثير في المتلقي، وتتوسَّل فيه كلتاهما بوسائل واستراتيجيات معيَّنة، تجعل منهما خطاباً مخصوصاً.

وإذا كان الكاتبُ-المترجِمُ يُفكِّرُ في المتلقي بحيث يجعل شغله الشاغل أنْ يُفهِمَه ما يَفهمُه عن النص الأصل، وَفْقَ الفيلسوف والتر بنيامين في مقالته "مهمة المترجم"، فإن الكاتبَ-البلاغيَّ هو الآخر يستحضر متلقّيه باستمرار، لأنه يهتمّ بإقناعه وبالتأثير الجمالي فيه، فكلاهما يجعل المتلقيَ نصب عينيه، بخلاف باقي الكُتّاب الذين لا يعنيهم القارئ في شيء بقدر اهتمامهم بالكائن البشري.

وعَطفاً على اعتبار البلاغة والترجمة فنّيْن يَحْضر بقوة الطرح الجريء الذي أثاره من قبلُ الفيلسوف الإسباني أُورْتِيغَا إِي غَاسِيتْ بصدد الترجمة، عندما عدَّها "جنساً أدبياً على حدة" اعتباراً لمَيْل كثير من القُرّاء إلى الاحتراز عند قراءةِ الترجمات، خصوصاً الشعر، الذي يُصرُّون على نعْتِه بالمترجَم دوماً، وهو ما لا يحْدُث عند قراءتهم للروايات والمسرحيات وغيرها.

فهل يُمكن عَدُّ البلاغة هي الأخرى "جنساً أدبيّاً على حدة؟"، بعدما نبَّهَ أرسطو إلى أنّ لها مبادئ ومكوّنات، وبعد رواجِ الحديث عن "خطاب البلاغة" في الدرس النقدي مؤخَّراً.

دلالات
المساهمون