عام 1879، قال الخديوي إسماعيل "بلدي لم يعد في أفريقيا، نحن الآن جزءٌ من أوروبا. ولهذا من الطبيعي أن نترك طرقنا القديمة ونتبنى نظاماً جديداً ضمن شروطنا الاجتماعية". جاء هذا الإعلان بعد أوّل مرّة عُرضت فيها "أوبرا عايدة" سنة 1871، وتزامن ظهور المسارح وتأسيسها مع ردم المستنقعات وتحويلها إلى أراض زراعية.
كان إدخال فنون العرض من أوبرا ومسرح عاملاً أساسياً في تغيير الثقافة الاجتماعية في مصر ومنها هاجر المسرح إلى المغرب فبُني "تياترو سرفانتيس" وإلى لبنان فظهر مارون النقاش، ثم العراق وسورية. حدث ذلك في الفترة التي تُعرف بـ المرحلة الأولى من العولمة، أو بلغة أخرى ذروة الإمبراطوريات الكولونيالية، ومثل القاهرة تكرّر انبعاثُ المسرح في مدن مستعمرة مثل بومبي إلى شانغهاي ومانيلا أيضاً.
ارتبط نشوء المسرح بمصطلحات من نوع "الحداثة"، "الهجرة"، فكّ الأقلمة ثم إعادة بنائها، الحركة، ثم الحرب الباردة التي غيّرت في اقتصاديات المسرح الأساسية. وبعد أن كان المسرح يعمل ضمن مؤسسات خاصة، ويديره أصحاب مشاريع أو فرق فنية، ظهر المسرح القومي، وكان ظهوره رمزاً لاستقلال المستعمرات السابقة في أفريقيا وآسيا وجنوب أميركا.
أما الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية فقد جلبت معها تغيّرات أساسية في مؤسسة المسرح، مع ظهور مصطلحات نظرية من نوع "تفكيك الاستعمار"، "الدبلوماسية الثقافية"، والمسرح كبضاعة عامة. بينما ارتبطت الحرب الباردة بـ الستار الحديدي، والقيود على الحركة واكتسبت الجولات المسرحية معنى جديداً. واستعمل المعسكران في الحرب الباردة المسرح لإظهار الطريقة التي يعمل بها النظام.
زادت حركة المسارح القومية وأنفقت ملايين الدولارات والروبلات على الجزء الثقافي من الحرب الباردة، حيث كان المسرح سلاحاً قوياً فيها. وهذه الحرب لم تقتصر على أوروبا الشرقية والغربية، بل تجاوزت ذلك إلى المستعمرات القديمة التي تبنّت ثقافة مستعمريها وأصبحت تسمى بـ"الدول الوكيلة".
وإن كان جدار برلين قد فصل بين المعسكرين على أصعدة كثيرة، فإن جولات الفرق المسرحية كانت تتحرّك على الجانبين، رغم أنها تتلقّى دعماً رسمياً، وفي حين كان تنقّل المسرح قبل الحرب العالمية الثانية مرتبطاً بالغايات التجارية فقد اختلفت غاياته بعد الحرب لتصبح نوعاً من الدبلوماسية الثقافية ضمن ما يُعرف بـ "القوى الناعمة"، هذه كانت متفوقة على البروباغندا التي يمارسها المعسكران بميزة وهي أنها لا تحاول بيع رسالة بشكل مباشر، بل تؤمّن حلفاء للثقافة هذه أو تلك، وهؤلاء هم المثقفون والفنانون والمسرحيون والأدباء، وهي وسيلة استخدمها الطرفان على جانبي الجدار الحديدي.
ما يعيشه المسرح اليوم نتيجة للعولمة، هو دخول التقنيات الحديثة وفن الفيديو وأشكال جديدة في التمثيل وصيغ متعدّدة من الأداء، لكن الأمر لم يكن هكذا في القرن العشرين، حين كان هناك منهج مهيمن على المسرح وهو الذي طوّره الروسي قسطنطين ستانسلافسكي في مسرح موسكو، والذي انتقل إلى أميركا عبر لي ستراسبيرغ، وأصبح الطريقة التي خرج من عباءتها مارلون براندو، روبرت دي نيرو، آل باتشينو... إذ انتقل أثر ستانسلافسكي من المسرح إلى التلفزيون والسينما.
يتغيّر المسرح اليوم وتتغيّر أدوات الهيمنة، لتنتقل إلى التكنولوجيا، وما نراه اليوم من عروض مفاجئة ليس هو النهاية، ما الذي ينتظر المسرح بعد عشرة أعوام مثلاً، وأين ستكون خشبة العروض التالية، داخل أم خارج العالم الافتراضي؟