المولد النبوي.. عودٌ وجداني إلى زمنية مثالية

01 ديسمبر 2017
(المولد النبوي في القدس المحتلة، 2013، تصوير: أحمد غرابلي)
+ الخط -

من أجناس السرد المهمشة في تاريخ الأدب العربي، تحضر "المولدية"، فرعاً من فروع السيرة النبوية. ومن عيون متونها التي اشتهرت بين الناس مولديةُ ابن الدَّيْبَع الشيباني (1461-1537) وأسْيَرُ منها مولدُ عبد الكريم المناوي (1545-1621) والبرزنجي (1834-1899)، في العصر الوسيط.

ومن آثار المتأخرين، في القرن التاسع عشر والعشرين، تواترت سردية إبراهيم الرياحي (1766-1850)، وبعدها "قصة المولد" للعلامة الطاهر بن عاشور (1867-1973)، وفي القائمة عشرات غيرها. وتتميز هذه السرديات النبوية بمراوحتها بين النثر الفني والنفس الشعري، مع حضور للسجع وسائر محسّنات البديع.

ويدور محور المولديات على استحضار "وقائع" سيرة النبي محمد، مع التركيز على شمائله وخصائصه الخُلقية والخِلقية، ومن أفنانها بشائرُ ليلة المولد، وما جرى خلالها من عجيب الإرهاصات. ولا شكَّ أنَّ لهيمنة المنحى الغرائبي دلالةً حضارية، تُفهم في ما كان من السجال بين العرب وغيرهم من الأمم، قبيل مجيء الإسلام، حيث شكّلت تلك الليلة بداية تأريخ جديد، من خوارقه الكبرى، حسب هذا القَصَص: انهدام إيوان كسرى أنو شروان، وجفاف بحيرة طبرية، وانطفاء نيران فارس، بعد توقدها ألف عامٍ... ويمضي المخيال في صياغة سلسلة من المعجزات وخوارق الطبيعة، امتلأت بها كتب السيرة والمدحيات النبوية، ولكنْ لم تُضف فقط إلى شخص النبي، وإنما إلى ليلة ميلاده، باعتبارها لحظة فارقةً وزمناً تأسيسياً، غيَّر مسار البشرية بأسرها.

وتتركز جمالية هذه النصوص في آلية الأمْثَلَة Idéalisation، بما هي رسمٌ أسطوري (بالمعنى الأنثروبولوجي) عن حياة النبي، بأسلوبٍ يخالف جفافَ التأريخ الواقعي، وصرامة التحقق من صحة الأحداث أو زيفها، وفيها تتبدى إمكانات البيان الوصفي والمجازي، لإظهار صورة نموذجية عن النبي، بدءً من لحظة ميلاده التي "أبانت عن طِيب عنصره"، حتى آخر نفسٍ من حياته و"انتقاله إلى الرفيق الأعلى".

وتتمثل وظيفة الأمْثَلَة في الحفاظ على شخصية النبي "أسوة حسنة"، تحيا في الضمير الجمعي، ومن ينابيعها تتفجرُ لغة سردية-شاعرية، لا تقيّدها حدود جنس أدبي محدد، لأنها تمتح من التاريخ بعض أحداثه، ومن مادة الخيال تقدُّ بقيَّة هياكلها وشخوصها وفضاءاتها الرمزية.

ومن آثار التخييل وخصائص الأسلوب في جنس المولدية هذا، مما لا نلمسه في غيره من خطابات الفن القصصي، أنها تُنشَد في مجالس الاحتفاء، وتُتلى على مسامع الحضور في تنغيم، بهدف التطريب والوجد، عبر المواويل الفردية أو المدائح الجماعية، وأشهرها قطعاً بردة البوصيري (1213- 1295).

وهكذا تحتل هذه السرديات المغناةُ مكانًا وسطًا بين الفنون الشعبية والأدب العالي، فهي تُؤدَّى بفصيح الضاد في بهاء صنعتها، ولكنها تتوجه إلى جمهور عريض من السامعين، يخضعون لآثار الاحتشاد، وفعل التواجد الجماعي.

ويبدو أنَّ هذا البعد الشعبي قد شهد تراجعًا ملحوظًا، ومن آياته اللافتة قيام دور الثقافة والجمعيات والهياكل الحزبية، في بعض البلدان العربية، بندواتٍ فكرية ومسابقات أدبية وتاريخية حول السيرة النبوية، في مسعى للضبط العقلاني لهذه الظاهرة حتى تخرج من طابعها الاحتشادي، وما التصق به من شحن سلبية، لتكون "حدثًا ثقافيًا"، تستثمر فيه مؤسسات الدولة لتقوية شرعيتها، ودعم التحام المواطنين والتفافهم حول مرجعية موحدة.

ولا مناص من الإشارة إلى أن كل الأنظمة السياسية غدت تستثمر في هذه الاحتفالات، التي يشارك فيها رؤساء الدول وكبار المسؤولين، لتثبيت الشرعية السياسية وإظهار الاعتناء بهذا البعد الديني وتأكيد احتضانه، باعتبار الدولة "حامية الدين".

وفي غمرة الاحتفالات، تتساوى (أو تتظاهر بذلك) الفئة الحاكمة مع الطبقات الشعبية المحكومة، في الاعتناء برمز موحد، تغيب فيه مؤقتًا تراتبية السلطة القهرية، والحواجز الطبقية وعلامات الثراء، لاستواء الجميع في الحضور بأجمل الألبسة التقليدية، والاستماع إلى الخطب والمواعظ والمدائح... وتناول الحلويات المعدّة لهذا الغرض.

ولا تمر هذه الذكرى من دون أن تثير، كلَّ سنة، نفس الجدل الذي يتكرر مع اقترابها، حول الشرعية الفقهية للاحتفال بالمولد، ومدى مطابقته لأعمال السلف من عدمها. فلئن دأبت دول المغرب العربي، مع مصر والسودان، على الاعتناء بهذه المناسبة والاحتفاء بها، ضمن فعاليات شعبية ورسمية، داخل مسار ثابت الأركان، تلتقي فيه إرادتا الحاكم والمحكوم، فإن بعض دول المشرق لا تقر مثل هذه المظاهر وتعتبرها "من البدع والضلالات" وقد تقترن لديها بمظاهر "الشرك".

وتنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي - قبيل المولد بأيام - نفس الجدالات الفقهية والأصولية حول دلالات ترك النبي وصحابته لهذا الاحتفال، وهل هو ترك حرمة أو كراهةٍ، مع ما تتطلبه هذه المساجلات من الأدوات المفهومية التي لا تتوفر لأغلب الشخصيات الدينية، الداعمة أو المعارضة، فضلاً عن المتابعين.

وتشيع في ديار المهجر نفس الأدبيات الفقهية، ولكنْ مُترجمةً إلى اللغات الأوروبية، وفيها تستعاد نفس هذه الحجج - بعد تبسيطها وتحويرها بفعل الترجمة الماكر - ويبدو أنَّ المعركة تميل، في ضواحي باريس على الأقل، لصالح المؤيدين، لذلك كثرت في مساجدها وجمعياتها الثقافية مثل هذه الاحتفاليات، بل ربما أقيمت في قلب مسارح باريس الكبرى، بمباركة من السلطات البلدية والأمنية ضمن مسار تشجيع المسلك الصوفي لمواجهة "التطرف". ويشهدها حتى غير المسلمين الذي يَنْشدُّون إلى الفقرات المقترحة، وفيها أحيانًا رقصات روحية، ومقاطع غنائية إلى جانب تقديم الحلويات الشرقية.

وهكذا، فالحال في الغرب والبلاد الإسلامية متماثل من حيث التوظيف السياسي لهذه المناسبة، إذ تتلاعب الأنظمة بها، حتى تلك الأكثر علمانية، وذلك من أجل دعم السلطة المركزية والتظاهر بالاستناد إلى تجربة النبي .ولكنَّ هذا البعد الحضاري قد يتجلى أكثر في دول المَهجر الأوروبية، إذ تطغى على المولد أبعادٌ قومية تتصل بهوية العرب والمسلمين في هذه الدول، ولا مناص من استحضار الاحتفالات بأعياد ميلاد السيد المسيح التي تقام في أوروبا وتشكل دائمًا معضلة تربوية يواجهها الآباء المسلمون، حين يجبرهم ضغط أبنائهم ورفاقهم على شراء صنوبرة الأعياد.

فلعلهم يجدون في المولد النبوي فرصة للتعويض، ومناسبة لإثبات الذات الثقافية، بالإضافة إلى استحضار شخصية النبي، بوصفه الرمز الجامع للمهاجرين، ومن سيرته قد ينهلون مكارم الأخلاق، للرد على مادية الغرب وانحلال القيم فيه، حسب رأيهم.

الاحتفال بالمولد النبوي عودٌ وجداني إلى زمنية مثالية، ضاربة جذورها في الماضي، تتشابك أثناءه المؤثرات وتتداخل القيم والرموز، حين يسعى المسلمون إلى ربط راهنهم المأزوم "بذكرى حبيبٍ ومنزلِ"، يسائلون عبرها خيبَة الواقع، أو يبحثون عن الرمز المطلق الذي غيَّر الماضي، على أمل تغيير الحاضر. ولنا أن نتساءل عن الوظائف الثقافية التي تؤديها الأمْثَلة بما هي حركية للمخيال لاستعادة الماضي وجعله المرجعية المطلقة، بعيدًا عن تدقيقات المؤرخين وجدالاتهم.

____________________________________
بداية مصرية

ابتدأ الاحتفال بالمولد في مصر، أثناء الدولة الفاطمية، ومنها انتشر، في القرن السادس الهجري/الثالث عشر للميلاد، إلى أحد أمراء الدولة الأيوبية، وهو المظفر أبو سعيد بن زين الدين كُوكَبْري (1153-1232)، حاكم مدينة أربِل (أربيل)، وكانت له آثار عمرانية كبيرة وأفعالٌ خيرية، مع مَيل إلى التصوف.

وقد اعتنى كوكبري بالاحتفال بليلة المولد، وأمر بإظهار السرور فيها، وكان، حسبما يروي ابن الأثير في "البداية والنهاية"، يَصنع طعامًا كثيرًا، ويمد له سماطًا فيه خمسة آلاف رأس غنم مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان ينفق على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، ويضيف الذهبي، "وأما احتفاله بالمولد، فيقصر التعبير عنه؛ كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة، وتنصب قباب خشب له ولأمرائه وتزين، وفيها جوق المغاني واللعب، وينزل كل يوم العصر، فيقف على كل قبة ويتفرج، ويعمل ذلك أياما، ويخرج من البقر والإبل والغنم شيئا كثيراً، فتنحر، وتطبخ الألوان، ويتكلم الوعاظ في الميدان". وصنف له ابن دَحيَةَ أول مولدية "التنوير في مَولد البشير النذير"، فمنحه كوكبري ألف دينار. ومن مدينة إربل، انتشر الاحتفال بالمولد النبوي إلى سائر الدول الإسلامية.

المساهمون