رحيل عباس كيارستمي: سينما بمسّ من الشعر

05 يوليو 2016
(1940- 2016)
+ الخط -

رحل المخرج والشاعر الإيراني عباس كيارستمي (1940- 2016)، أمس، بعد صراع مع المرض، في فرنسا، حيث كان يتلقى العلاج، ولعلّه لم يتمكن أن يُلقي تحية أخيرة على بلاده وقصائدها وأطفالها الذين رافقوه طوال رحلته السينمائية لنصف قرن وأكثر.

الطفل عبّاس الذي وُلد في عائلة كبيرة في طهران، كان شغوفاً بالرسم لدرجة أهّلته لاحقاً أن يعيد تشكيل العالم المحيط به لكن بأدوات أخرى؛ الكاميرا تحديداً. الطفل ذاته كان أكبر إخوته وأراد أن يدرس مهنة تحقق له حياة أفضل وهي طب الأسنان، لكنه أخفق في مسابقة القبول لكليتها، فالتحق مرغماً بكلية الفنون الجميلة، حيث أمضى هناك 13 عاماً حتى تمكّن من التخرّج.

يقرّ صاحب "لكلّ سينماه"، في عدد من حواراته الصحافية، أنه كان ضعيفاً في تلقيه الدراسي، إضافة إلى اضطراره للعمل في أثناء الجامعة ليؤمّن مصاريفه، وقد ذهب إلى تصميم اللافتات والرسوم الغرافيكية للإعلانات التجارية وكتابة التترات لأفلام السينما، وهناك تعرّف على عدسة التصوير التي حملها في بداية مسيرته لينتج أفلام عديدة للصغار، وإن كانت موجهة لكل الأعمار، أو لـ"أولئك الأطفال الذين رفضوا أن تكبر أعمارهم".

امتلك الطفل الذي في داخله قدراً من الحكمة، فلم يصطدم دفعة واحدة مع مجتمعه، بل كان يطرق أبوابه المغلقة برفق شديد، فألّف في مستهل حياته المهنية كتابين للأطفال برسومها لم يلاقيا رواجاً يُذكر، إلى أن أسس "معهد كانون" للتنمية الفكرية للأطفال والناشئة، فظهر أول أفلامه القصيرة عام 1970 بعنوان "خبز وزقاق" عن صبيّ يُرسِله أهله ليشتري خبزاً ويعود، لكنّه يصادف في الطريق كلباً فيتملّكه الرعب رُبّما للمرة الأولى في حياته، إلى أن استطاع أن يجد طريقة لتجاوز الكلب والوصول إلى منزله.

لم يغب ذاك "الرعب" عنه، فقرّر أن يبدّده على طريقته، مواصلاً تقديم أفلامه الكوميدية والخيالية للأطفال في "زمن هو الأنسب لصناعة هذه الشرائط"، بحسب وصفه لتلك المرحلة، ورغم "تحوّله" إلى عالم الكبار في فيلم "التقرير" (1977) لكنه بقي منحازاً إلى بداياته، فقدّم بعد 13 عاماً "فيلمه الواجب المنزلي"، الذي أثار الجدل في إيران، بسبب انتقاده للنظام التعليمي برمّته، وتشكيكه بأساليب التدريس المتبعة، فكان نصيبه "الطرد" من دون أن يثير ردوداً صاخبة أو لافتة للأنظار –كعادته- من "معهد كانون".

آمن صاحب "الرحلة" بأن العالم يبدأ من بيته الصغير في طهران، وأن نجاحاته لن تكون إلا بفيلم إيراني يجسّد ما تعيشه بلاده بلا إثارة أو تكلّف، وأن ينطق ممثلوه باللغة الفارسية، فإذا استطاع أن يؤثر على جمهور من ثقافات أخرى – وهو ما حدث في كثير من افلامه- فأنه سيسعد بـ"عالميته".

إيران، كما فهمها، معجونة من قصيدة، ولا صلة لها بـ"نشرات الأخبار المتلاحقة عنّها"، لذلك رأى السينما قصائد مفتوحة على الكون؛ البساطة والتكثيف ومسوس الشعر وحدوسه. هذه البنية حكمت معظم مشروعه، فظهرت قصائد الشعر الفارسية في أفلامه كأنها جزء لا يمكن الاستغناء عنه، إلى درجة أوصلته إلى الصدام مع السلطة بسبب ترديد مقطعٍ للشاعرة الإيرانية فروغ فروخزاد في فيلمه "ستحملنا الريح"، ومُنع الفيلم في صالات السينما الإيرانية إلى اليوم.

انتقاد الواجب المنزلي وبيتا شعر حملاه للاصطدام مع نظام بلده، لكنه لم يقل أكثر مما قاله داخل الكادر، ولم ينجرّ إلى مواجهة أكبر، رغم تزايد الشكوك حوله من قبل أجهزة الأمن لاعتقادهم أن علاقاته مع مخرجين ودوائر صنع السينما الغربية تعكس صلات سرية ثد تصل حدود "العمالة".

شارك في إخراج فيلمين؛ "نسخة طبق الأصل" في إيطاليا، و"كشخص العاشق" في اليابان، لكنه نام في صالة العرض يوم افتتاحهما. أحس أنها ليست أفلامه لأن ابطالها لا يتحدثون لغة وطنه.

المساهمون