لماذا يكتب بطل جديد الأميركي المستقلّ جيم جارموش الشعر؟ ما مراده الخفيّ في امتثالاته اليومية لـ "تعهّدات" القصيدة، وتسطير روحها وصورها في دفتر رخيص؟ لماذا تزخرف زوجته لورا بيتهما وأكسسوارته بلونين أحاديين، هما الأبيض والأسود، لا غير؟ هل محيط الشاب باترسن وأشياؤه وأناقاته حقيقية، أم مستعارة من "يوتوبيا" أميركية، تبتكرها كلمات ومحاكاة وخيالات، مثلما "تستلف" القصيدة من محيط مؤلفها وعناصره؟
كلاهما مبدع بطريقته. الكلمة له، والتشكيل لها. لماذا لا يتجادلان؟ لماذا يبدو قدرهما كأنه ممسوك بمشيئة ربّ آخر، لا علاقة له بملايين الأميركيين حولهما؟
كل نصّ لجارموش، نصير حركة الـ "بانك" التمردية وفلسفتها التدميرية للذّوق السائد وتحزّباته، هو واجهة أسئلة لن تنتهي. هذه قوّة سينماه وفتوتها، حيث لا يجب استقامة الأشياء والأحداث، ورموزها وأبطالها وتواريخها، وكوميدياها ولعناتها، مع قناعات متفرّجها. عليها استفزاز فضوله وتحريضه على ظنون سينمائية، وإن يكن ما يتابعه منقول عن وقائع. شرائع جارموش، المنشورة عام 2004 بعنوان "الأحكام الخمسة الذهبية للسينما" (مجلة "السينمائي"، سياتل)، تُشدّد، في مقطعها الأخير، على أن "الصدقية لا تقدَّر بثمن، لكن الأصالة معدومة".
يأمرا قرينه المخرج بـ "اسرِقْ من كلّ ما يتوافر فيه الإلهام، أو ما يشحذ خيالك. التهِمْ الأفلام القديمة والمعاصرة، الموسيقى، الكتب، اللوحات التشكيلية، الصُوَر الفوتوغرافية، الأشعار، الأحلام، النقاشات العفوية، التحف المعمارية، الجسور، شارات الشوارع، الأشجار، الغيوم، البحيرات، الضوء والظلال"، ولكن: "اختَرْ فقط الأشياء التي تخاطب روحك. إنْ قمت بذلك، فعملك (سرقتك) أصليّ".
حياة باترسن اقتراضات/ سرقات جارموشية، أقرب الى "سرنمة" (سير النائم) خيالية العوالم، رغم واقعيتها الشديدة. ترسّمت يوميات شاعر مجيد، هو ويليم كارلوس ويليامز (1883 ـ 1963)، عاش في بلدة "باترسن" (نيوجيرسي، نيويورك). عمل طبيباً فيها حتى وفاته، مقترباً من مواطنيها، ومادحاً حيواتهم، وموثقاً جغرافيتهم بقصائد وصفية قصيرة، تشبه الـ "هايكو" اليابانية، اجتهدت في تفسير مقاصد المألوف، وما هو طوباويّ.
يصبح طواف البطل بمثابة جولات ضميرية بين شوارع وأحياء، مستمعاً إلى بشرها ومحاوراتهم، و"صائداً" صباحاتها، ومؤرِّخاً دويّها. إنها "متروبوليس" مصغّر لأميركاه العظيمة، التي لا تتجلى لنا بالكامل، وراضياً بما يختزلها من مساحة وضمير وصداقات وعِشرة حارات.
قصائده وصف عاطفي لأرضه ومؤله العائلي وحاضنة مواطنيته. رحّالة حكومي، يقود حافلة عمومية تربط بين بؤر سكانية. لن يُجبره أحد على تقصّياته. إذْ ينحسر السؤال في "باترسن"، وتحضر بدلاً منه بداهات حياة وتكرارها.
هذا الترداد مسلك حكائي محدّث لدى جارموش، إذْ إن "اللا حدوث"، أيّ انتفاء انقلاب ما هو يوميّ، يصبح وجهاً ثوريّاً للرتابة، التي تمجدها أبيات الشاعر، موجِّهاً تحياته إليها بحنو مبالغ فيه، كما كانت قبله ملحمة ويليامز، الصادرة عام 1964 بالعنوان نفسه.
يُقسّم جارموش عمله إلى 7 صباحات، تتطابق الـ 5 الأولى منها بشكل مدهش، وتستمر حتى خواتيم الليل. في بداية كلّ واحد، يظهر الزوجان متحاضنان في فراشهما المفرّط بأناقته، قبل متابعة نشاطهما، شديد الروتينية.
يتوجّه الشاب إلى عمله، حاملاً صندوق غدائه "البيتوتي"، كأنه رمز لحبل سري وهمي، يربطه بحبيبته الأجنبية، المهووسة بتأكيد أميركيتها بدأب منزلي: تارة، ترسم هندسيات متناظرة، وتارة أخرى، تتعلم عزف موسيقى الـ "كنتري" الشعبية. في ثالثة، تطبخ كعكات لبيعها في تجمعات آحاد مغلفة بالإحسان الديني، وفي رابعة، تتحمس ـ كمثقفة ـ لنوعية أفلام رعب هوليوودية، شاهدا معاً إحدى كلاسيكياتها.
يسوح باترسن في حديقته المدينية الواسعة، ملتقياً شخصيات عرقية متناقضة، تعكس ديناميكية مجتمعية (شاب أفرو أميركي يهدّد حبيبته بمسدس دمية. سائح ياباني يزور البلدة، مستتبعاً عوالم شاعره المفضل، المنتمي إلى "الحركة التصويرية" الشهيرة)، فيما تحاصر الجدران لورا (الإيرانية كلشيفته فراهاني)، حيث جذرها المكتسب لا يسمح لها بمبادرة، أو القيام باختراقات كبرى. لا جيران ولا تبضّع ولا نميمة.
الحاسم لدى جارموش أن الزوجة ليست عورة وافدة يتوجب إقصاءها. هي مكمل لعالم شعري هلاميّ، كتبه مجند سابق في الـ "مارينز" بوجدان مكروب بإلهامه. قاتل على أرض غريبة، وعاد منها بـ "غنيمة" حسناء وخلاّقة وعاطفية، ومتلهّفة على كل شيء.
يقرأ باترسن (آدم درايفر) شعراً كتبه مؤلف آخر، هو رون باجيت (74 عاماً)، يكن له جارموش تقديراً كبيراً، دفعه إلى كتابة قصائده على الشاشة، كي ترافق إلقاءات ممثله الشجيّة لأبياته. إذاً، لن يكتب الشاب شعراً، بل يتقمّصه.
متونه أشبه بـ "ذات مستعادة"، حسب وصف الفيلسوف الألماني أرنست بلوخ. تؤكّد ذلك الهدية ـ الدفتر، التي يقدمها له السائح الياباني (ماساتوشي ناغاسي)، وغمزته المثيرة بأن السائق الشاعر سيعرف مغزاها لاحقاً. أيضاً، نفهم أن رسمات لورا بالأبيض والأسود، قوافٍ "تجريدية"، تشاكس إفراطه بما هو ماديّ.