يمثّل العالم العربي فضاءً تتجادل وتتصارع فيه مفاهيم عديدة في ميادين الفكر والسياسة والحياة العامة. مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية والليبرالية وغيرها؛ بعضها نجح المفكّرون في تمريرها على نطاق واسع، وبعض آخر ظل مصدر إشكاليات وتذبذب، وأخرى ظلت مستعصية على الاستنبات أو التداول بسلاسة لاعتبارات عدة، دينية وأيديولوجية وثقافية.
خلال "المؤتمر الخامس للعلوم الإنسانية والاجتماعية" الذي اختُتم مؤخّراً في الدوحة، كان "سؤال الحرية" أحد المحاور الرئيسية، وفي إطاره حاول المشاركون مقاربته ضمن الأنظمة والتشريعات التي لا يمكن النظر إلى الحريّة خارجها. من بين هؤلاء، الباحث السوداني عبد الوهاب الأفندي، الذي يرى أن "لا معنى للحريّة خارج إطار المنظومة الاجتماعية، ولا تنفصل عن مفهوم الجماعة التي تشكّل هذه المنظومة".
في ورقته، "ثمن الحرية: اقتصاديات الحرية والتحرّر في صراعات الحداثة العربية"، تطرّق الأفندي إلى سؤال الليبرالية الحديثة، كما تجلّت في الغرب، الذي يزعم أن "المجتمعات العربية لا تزال تحفل بتضامنيّات ما قبل حداثية، من قبلية وطائفية وغيرها"، متسائلاً: "كيف يمكن بناء الحرية في هذه المجتمعات بما يضمن التناسق في ما بينها وتنظيم الصراع بحيث يظل سلمياً ومؤسسياً بدلاً من أن يتحوّل إلى العنف أو الفوضى؟".
انشغلت ورقة الأفندي باستعراض السجالات حول موضوع الحرية، لافتاً إلى وجود سوء فهمٍ متأصّل بخصوص هذا المفهوم. في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، يوضّح صاحب "الإسلام والحداثة: رؤية جديدة" هذه النقطة: "يجري التعامل مع الحرية كشعار، وبتبسيط، بمعنى أنّها غياب كليّ للسلطة.
لكن، في الحقيقة، الحرية هي الوجه الآخر من السلطة". يفسّر ذلك: "إذا سُمح لك أن تلبس ما تشاء مثلاً، لا بدّ أن تكون هناك سلطة تحميك؛ فبالتالي الحرية هي نظام ضبط، وليست نظاماً مُطلقاً".
هنا، يستند الأفندي إلى مقولة توماس هوبز التي تقتضي بأنّ جزءاً من الحرية "لا بدّ من التضحية فيه من خلال تفويض السلطة لنظامٍ يتولّى تحقيق العدل بين الناس وضمان حقوقهم". وبهذا المعنى، بحسب الأفندي، "فإن الحرية يجب أن "تؤمَّم" إن صح التعبير، بحيث تقرّر السلطة المركزية توزيعها على الناس بما يحفظ العدل بينهم".
انطلاقاً من هذا التصوّر للحرية، يذهب الأفندي، الذي يعمل أستاذاً للعلوم السياسية، ومدير برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، إلى مفهوم الليبرالية في المجتمعات الغربية، ويناقش، أيضاً، "الليبرالية الإسلامية".
بدايةً، يؤكّد الأفندي أن "مفهوم الحرية متأصّل في كل الثقافات، بما في ذلك الثقافة العربية قبل وبعد الإسلام، فهي ما يعنيه عمرو بن كلثوم، مثلاً، حين يقول: إذا ما المُلْكُ سام الناس خسفاً/ أبينا أن نقرّ الذل فينا". ويشير إلى مقولة الطهطاوي بـ"تطابق مفهوم الحرية الغربي مع مفهوم العدل الإسلامي".
وعند النظر إلى التجربة الغربية، الليبرالية تحديداً، يوضّح الأفندي أن النظام الليبرالي "ما يزال يوجِد أنظمة ضبط محكومة بمنطق توسيع الحريات؛ ما يجعل كلفة الحرية على الفرد أقل ما يمكن، بعكس الأنظمة الأخرى الشمولية، أو القائمة على طائفة أو حزب، فمساحة الحريّة ستكون، وبشكلٍ مباشر، مكرّسةً لخدمة هذا النظام".
لا يقصد هنا صاحب "كوابيس الإبادة: سرديّات الخوف ومنطق الفظائع الجماعية" تمجيد النظام الليبرالي بوصفه نموذجاً نهائياً لمناذج أنظمة الحرية، فهو يشير، من جهةٍ أخرى، إلى ما يسميّه بـ"اقتصاديات الحرية".
يوضّح: "أعني بهذا المفهوم منظومة الضبط، أو الحكم، وكيفية تيسيرها لنظام الضبط المُنتِج للحرية، وانعكاس هذا النظام على تكلفة الحرية. الأنظمة الليبرالية، في هذا السياق، تمتاز بطابع اقتصادي يفرض أنماطاً معيّنةً على المواطنين بما هو مضادّ للحرية التي تروّج لها الأنظمة الليبرالية".
يضيف: "الرأسمالية المتوحشة التي سادت في بداية العهد الليبرالي ولّدت بالفعل ثروات طائلة، ولكن ثمارها لم تكن تقسّم بالعدل والسوية، بل كان تكديس الثورات يتزامن مع إفقار الملايين؛ ما غذّى الثورات والأيديولوجيات المعادية لليبرالية، من ماركسية وفاشية وغيرها، وأدى إلى انهيار الديمقراطيات".
في هذا السياق، يتحدّث الأفندي حول الليبرالية العربية، التي "تعود جذورها إلى الاستعمار نفسه الذي استخدم الأقليّات لتحقيق مصالحه". يقول: "غالباً، فشلت هذه التجربة عربياً، فهؤلاء الليبراليون/ العلمانيون، لم يستطيعوا أن يكونوا ديمقراطيين، كونهم لم يسمحوا بالحريات الدينية، بحجج مثل التطرّف والإرهاب. لقد تدخّلوا، مثلاً، بلباس المرأة، مع أنّه، نظرياً، لا يفترض بالعلمانية أن تتدخّل بالأمور الشخصية، لكن هذا لم يحصل عربياً".
وماذا عن نموذج "الليبرالية الإسلامية"؟ يضحك الأفندي هنا، ويتذكّر مقولةً لغاندي، ويحوّرها قائلاً: "تركيا ستكون فكرة جميلة".
اقرأ أيضاً: جورج طرابيشي: مغامرة تحرير العقل العربي