القصور الأموية.. ترحال في خارطة خالد السلطاني

كوبنهاغن
5698EA23-7F4D-47FA-B256-09D7BCA82E5A
ناصر السهلي
صحافي فلسطيني، مراسل موقع وصحيفة "العربي الجديد" في أوروبا.
12 فبراير 2016
C5C5D988-13B7-427E-ADCC-E46C4A153EC2
+ الخط -
يضعنا المعماري والباحث العراقي خالد السلطاني (1941) على بساط رحلة ممتعة في كتابه الجديد "عمارة القصور الأموية: تجلي العمارة المدنية الإسلامية وتمثلاتها". من عمّان، تبدأ الرحلة قبل عقد من الزمن، وإليها يعيدنا راوياً سيرة رحلته مع البحث العلمي عن حقبة عربية إسلامية هي العصر الأموي (661 - 750 ميلادي)، كاشفاً لنا في أثنائها كيف حمل مخطوطة كتابه وهو يتجوّل لساعات عند قلعتها والقصور الأموية فيها، متماهياً مع المكان قبل أن يدفع بالمخطوط إلى الطباعة.

يُهدي المؤلف كتابه إلى "البناة الأوائل وفنانيهم الذين اجترحوا لنا مفهوم العمارة المدنية الإسلامية، مؤسسين بذلك الاجتراح أحد تجليات منجز العمارة الإسلامية الحصيف، ومرسخينه في المشهد والخطاب". يتتبّع السلطاني أثر العمارة الأموية من قصر الحرانة في البادية الأردنية، والقسطل والمنية في فلسطين، والحير بقسميه الشرقي والغربي في بادية الشام، إلى قصر هشام في أريحا، فالجامع الأموي في دمشق، والأخيضر في كربلاء وسامرّاء في العراق، وصولاً إلى قصر الحمراء في غرناطة؛ قصورٌ ومبان صغيرة وكبيرة، ولكن ليس حجمها هو الأخّاذ في رواية السلطاني لذلك الشغف بل ما أسّسه ذلك المعمار، وما غرف منه.

في كوبنهاغن، حيث يعمل باحثاً وأستاذاً زائراً في "الأكاديمية الملكية الدنماركية"، توسّع شغف السلطاني بحقله العمراني وهو يراه في سياق الجدلية الفكرية للتأثير والتأثر في مسالك الفن المعماري في العالم، فهو ليس حجارة صمّاء أو منحوتات لا أثر لها. هنا يحدثنا عن تفاصيل ما يراه من أثر في البناء المدني الأموي، حيث يأخذ من عمارة الأنباط العرب ومملكتهم في البتراء ومدائن صالح، ويلتقط بمهارة وقدرة مهنية تقنيات تطويع الحجر الوردي للخلط بين المحلي والروماني، لنكون أمام تجلّ للحفر الدقيق. يقول: "إنها المقدرة الفنية للعامل والمهندس على النحت في الحجر وهي ما تزال قائمة حتى يومنا".

عاد السلطاني منذ فترة إلى تدمر، ذات الثقافة الرومانية والمتأثرة بديانة وادي الرافدين، وبحزن تحدّث عما جرى للمدينة حين دخلها الدواعش، فقد مر فيها المسلمون الأوائل من العرب فلم يلمسوها بسوء. لقد سبق تأسيس العمران المدني الأموي ثلاث حضارات وعمران عربي "ومن الطبيعي جداً أن كل ثقافة تأخذ من أخرى وتتأثر بما قبلها"، يضيف "من يتأمل قبّة الصخرة في القدس سيرى تأثير كاتدرائية بصرى في العمران".

ألف شهر، هي فترة الحكم الأموي، وإليها يذهب ابتداء من الفصل الثاني بقوله: "لدي قناعة كاملة بأن الإبداعات الموجودة في جنس إبداعي تؤثر على جنس إبداعي آخر، فالموسيقى تؤثر في الشعر والعمران والعكس، والعمارة الدينية أثرت في العمارة المدنية والعكس".
ما يهم في روعة العمران الأموي المدني في القصور التي بنيت وهي حوالي 80 قصراً "أنها أسست لنموذج البناء باحتوائه على الفناء الوسطي وقاعة وغرفتين تحيط بالقاعة، خلف جدران تبدو من الخارج كقلعة لا يعرف أحد ما يدور في داخلها، والعلاقة مع العالم الخارجي عبر البوابة. لكن الأهم هو ما تحتويه القصور من روعة في الزينة والصور، وسجاد ذلك الزمن من الفسيفساء". يعرّج السلطاني على المسجد الأموي قبل أن يعود إلى قصر هشام، فالأول "من أجمل ما بني من مساجد مؤسسة لما سيبنى بعدها، والثاني أروع القصور في فلسطين وعموم المنطقة".

وسواء تعلّق الأمر بقصر القسطل أو بالقصور الأخرى في المنطقة، بتعبير المؤلف "الحوض الثقافي الشامل لبلاد الشام والعراق"، وبغض النظر عن مادة البناء، سواء كانت من الحجر أو الطابوق، فإنها عمران يشير إلى زمن الترف الإسلامي وخصوصاً بالنظر إلى الحمامات وما تطلّبه ذلك من نظام إيصال مياه عبر أنابيب إلى القاعة الباردة والدافئة والساخنة، وهو يشير إلى أن المراحيض لم تكن مراحيض القرفصاء، بل هي أقرب لما هو شائع اليوم في الغرب، مع نظام تهوئة يعبّر عن حالة الأرستقراطية العربية في حينها.

ينقل السلطاني القارئ من قصر إلى آخر، ليظهر في صور جمعها في كتابه أهم ملامح تلك الحقبة الزمنية، وبالتوازي يطرح إشكالية الثقافة وربما الدين في ذلك العصر، إذ يعترف بأن الحضارة العربية الإسلامية تكرّست مع ما سمي لاحقاً "إجماع".

ففي تأويله لعمران العرب، ومن ورائه تاريخهم، يطرح السلطاني إشكالية "الاجماع" وذهنية التحريم، إذ يشير "عليك أن تقبل الإسلام والمسلمين كما هم عليه أو كما أجمعوا عليه منذ 1300 عام. لكن القصور الأموية لا يمكن تكذيبها فهي موجودة، قصور الخليفة التي تحمل المنحوتات والتصاوير تشير إلى شيء آخر عن ذهنية التحريم".

ويضيف: "لست فقيهاً في الدين، لكنني وفق كل تلك المكتشفات والدراسات التي سبق أن قام بها غربيون، نمساويون وغيرهم، أدقق في هذه اللوحات المنحوتة التصويرية البديعة والفسيفساء المستخدم للطيور والبشر والخليفة يجلس على الشرفة، وأوتار الموسيقى في القصور الإسلامية الأموية، لأستنتج ببساطة أن ما أُجمع عليه لاحقاً ليس بالضرورة ما أُجمع عليه سابقاً".

في ما رصده السلطاني، يرى أن القصور والعمران الأموي المدني حملت ثراء معرفياً وتنوّعاً فضائياً وجمالية لتلك الحقبة وإنسانها. ليس الثراء المادي فحسب، المتمثل في البذخ الذي تقدّمه آثار تلك القصور، ولكن الترف التصميمي والخطاب المعماري وتداخله مع ما قبله، ما أنتج خصوصية الحوار الحضاري دون تشنج كالذي يطغى علينا هذه الأيام.

يقيس السلطاني ما أنتجه الأمويون من عمارة مدنية، بتأثيرها على العمارة اللاحقة، سواء في لاهور وبخارى وغرناطة أو العراق وعموم المناطق التي بنى فيها المسلمون والعرب لاحقاً.

هكذا، يرى التأسيس في العمارة الأموية مدخلاً لما سنُعرّفه لاحقاً بفن العمارة العربية الإسلامية خصوصاً في قصور العراق ومساجدها من سامراء إلى كربلاء. في الفترة الموالية من الحضارة الإسلامية، أي العباسية، لم يجر القطع مع المنجز الأموي، بل تم الاستفادة مما تأسّس، وصولاً إلى الأندلسيين وتحفتهم قصر الحمراء في غرناطة، وهؤلاء كانوا ينظرون إلى إنجازات أجدادهم الأمويين ليكون لدينا هذا المنتج الأسطوري كسراب معماري جرى الاشتغال على أدق تفاصيله، هذا عدا عن تأثر معمار شمال أفريقيا، والقيروان خصوصاً، بما قدمه مسجد الوليد الأموي في دمشق.

في المحصّلة، شكّلت العمارة الأموية "الغطاء الكبير" لما تلاها. أما ما سبقها، فيشير السلطاني إلى اعتماد الأمويين على القيم المستندة إلى الحرم والصحن في أول مسجد في بيت الرسول. وحين بدأت الفترة العباسية اعتمدت على النوعية الموجودة من العصر الأموي، ولعل نظرة إلى عمارة قرطبة وسمرقند ستكشف أي أثر تركه ذلك العصر.


اقرأ أيضاً: حداثة بغداد: عودة إلى العمارة الحالمة

المساهمون