غرباء تماماً: رسائل نصيّة حتى النهاية

09 ديسمبر 2016
(المخرج في أثناء تصوير العمل)
+ الخط -

في أزمنة سابقة لما يُعرف بـ "الثورة المعلوماتية" ظلّ الصديق الأكثر قُرباً يوصف بـ "مخزن الأسرار"، ومع تطوّر وسائط الاتصال التي وعد أصحابها بتحويل العالم إلى "قرية صغيرة"، أضحى الوضع مختلفاً إلى حدٍّ ما. ثمّة عوامل جديدة طرأت على العلاقات الاجتماعية، مما نتج عنها تطوير نماذج سلوكية جمعت بين المتناقضيْن الاتصال واللااتصال في وقت واحد، وهي "الحدوتة" التي بُني عليها الفيلم الإيطالي "غرباء تماماً" والذي عُرض مؤخراً في "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" وحاز "جائزة نجيب محفوظ" لأفضل سيناريو.

يعتمد الفيلم الذي أخرجه باولو جينوفيزي (1966)، على ثيمة "القُرب - البُعد" من خلال علاقة سبعة أصدقاء (ثلاثة أزواج وأعزب) يلتفّون حول مائدة عشاء في منزل أحدهم، ليكشف كيف جعل الواقع المعاصر، من البشر "غرباء تماماً" عن بعضهم بعضاً، و"قرباء" أكثر مما ينبغي من أجهزة الاتصال، فهي خزّان الأسرار الجديد الذي احتلّ مكانة الصديق الأقرب.

الفيلم الذي يبدو عليه التقشّف الواضح في الإنتاج من حيث اعتماده على موضع تصوير واحد، مع تصوير خارجي خاطف للحظة النهاية، راهَن فيه مخرجه على خطف اهتمام المُشاهد وتوفير المتعة المطلوبة، بين المواقف الكوميدية الكثيرة والمواقف الدرامية الصادمة التي تتخلّل المشاهد. حيث يستعيد "الأبطال" تفاصيل صداقتهم الطويلة، قبل أن تقترح إحدى الزوجات لعبة خطرة العواقب تتمثّل في ترك جميع الهواتف المحمولة على طاولة السفرة، ليشاهد ويستمع الجميع لكل اتصال أو رسالة نصية ترد إلى كل هاتف بشكل جماعي.

لا يتوقّف العمل هنا في انتظار ورود الرسائل أو الاتصالات، بل يذهب بعيداً في خلق حالات كوميدية من خلال استعادة مواقف وقفشات الطفولة، فضلاً عن تجاذب أطراف الحديث عن واقع الحياة بروح ناقدة لا تنقصها خفّة الظلّ كعادة الإيطاليين، ولا سيما من قبل الصديق الأعزب الذي أعيته مشقّة البحث عن عملٍ مناسب يدرّ عليه دخلاً ثابتاً.

تبدأ المشاهد الدرامية بورود أولى الرسائل، لأحد الأزواج والتي تتضمّن إيحاءات جنسية من رقم مجهول، ما يسترعي اهتماماً جماعياً لمعرفة المرسل، وبالخصوص زوجته التي تعيش لحظات من القلق قبل أن تكتشف أن الصديق "صاحب دعوة العشاء" هو من استغلّ الحالة لبعث رسالة من موبايل ابنته، ليكتشف الجميع أن اللعبة قد بدأت بمقلب التهمه الجميع قبل العشاء.

تعود روح الدعابة والمرح مجدّداً، إلا أن هذه الحالة لا تدوم طويلاً مع ورود اتصالات ورسائل جديدة، تُمعن في تدمير الحياة الخاصة للأصدقاء وتضع الجميع عرايا أمام أنفسهم وأمام الناس، أغلبها تتعلّق بالعلاقات المشبوهة خارج عشّ الزوجية.

أمام هذا الجو المشحون بين الأزواج، الذي بدأ كل منهم يكتشف الآخر كما لم يعرفه من قبل، بل يبدو في كل لحظة غريباً عنه، من حيث الأسرار التي يخفيها عنه، وأمام التوتّر المتزايد ينسحب الأعزب الوحيد نحو الشرفة، ليلحق به أحد الأصدقاء ويطلب منه بإلحاح، تبديل موبايله خفية، نظراً لترقّبه استقبال رسالة من عشيقة تتضمّن صورة خاصة بها، وأمام إلحاح الزوج الخائف من "خراب بيته" يقبل العازب بالفكرة، خصوصاً أن الرسالة لن تضرّه كثيراً وهو الأعزب الذي لا يرتبط بعلاقة زوجية.

وبالرغم من مرور موقف الأعزب سالماً، فإن عناصر الصدمة تحدث عند بدء ورود الرسائل تباعاً على موبايل الأعزب (الذي بحوزة صاحبه)، ليكتشف الجميع أنها من "عشيق مثلي" على علاقة بالأعزب، ما يضع الزوج في زاوية حرجة للدفاع عن نفسه، مبرّراً أن المرسل مجرّد زميل عمل، "مثليّ الميول" وأن لا علاقة فعلية تربطه به.

الصدام هنا لا يأخذ منحى واحداً مفترضاً بين الزوجة والزوج بل ينتقل إلى شلّة الأصدقاء الذين أعرب أحدهم عن صدمته، بل ودخل في نقاش حاد، حول إخفاء ميوله الجنسية طوال هذا الوقت. وهنا يدخل الفيلم في ذروة دراميته، حيث يفاجأ المشاهد أن الصديق المتذمّر نفسه يحتفظ بسر علاقة تربطه بعشيقة، ذلك من خلال ورود عدّة اتصالات على تلفونه المحمول.

لا يتوقّف الفيلم عن الإبهار والصدمة في كل تفصيلٍ منه، فهو في كل لحظة يُميط قناعاً، ويرسم دهشة غير متوقّعة، يحبس أنفاس المشاهد في موقف درامي، ثم يسحبه برشاقة نحو منطقة ساخرة ومضحكة، لكنه دائماً يؤكّد أن الأصدقاء بل والأزواج "غرباء تماماً".

أبقى الفيلم شخصاً واحداً فقط خارج دائرة الخيانات، وإن لم يبق من دون سرّ، ذلك ليس لكونه أعزب فحسب، بل لأن طبيعة علاقته وميوله الجنسية تبقى خارج الإطار المتعارف عليه والمعهود، وربما لأنه الشخص الذي يريد أن يبعث برسالة ما إلى المجتمع.

لا يضع المخرج لقطة النهاية قبل أن يكشف "السرّ" الذي بقي بين الاثنين اللذين تبادلا هاتفيهما، حيث يقرّر الأعزب هنا أن يعلن عن نفسه، ولا سيما بعد أن غادرت زوجة الأول المكان عقب اكتشاف سرّها مع شخص آخر ظلّت تغازله على فيسبوك وتبعث له بصور إباحية.

إنه فيلم عن الحياة المعاصرة بكل تفاصيلها، حيث نرزح جميعاً تحت أصفاد التكنولوجيا، ونقيم اتصالاً يُفضي إلى حالة اللااتصال. في نهاية الأمر نحن "غرباء تماماً" عن بعضنا حتى لو زعمنا "القُرب".

المساهمون