معارض بلا ذاكرة: متاهات الكتاب العربي

10 ديسمبر 2016
ديانا الحديد/ سورية
+ الخط -

شهدت أواخر هذا العام، وستشهد بدايات العام المقبل، عدداً من معارض الكتب في أكثر من بلد عربي. وكما جرت العادة في السنوات الماضية، تحيط بهذه الأحداث أضواءٌ وتغطياتٌ صحافية وفضائية بعيدة كل البعد عن تقييم المشهد، والذهاب إلى ما يطفو على سطحه أو أعماقه. فالكلُّ يمجّد معرضه، والكلُّ يعتقد أنه يساهم في نهضة ثقافية أو فنية، وما إلى ذلك. بينما يشير أي استقراء لما تطرحه الكتب العربية، المؤلف منها والمترجم، إلى أن أصحابها، المنتج منهم وتاجر الكتب، يعيشون في عالم آخر لا يتصل بالعالم المعاصر، أي أنهم لا ينتجون معرفة جديرة بهذه التسمية.

هذا العالم الآخر يحكمه خليطٌ من حوافز ورغبات، تجارية أولاً، وحذرة من اختراق محرّمات سياسية أو آراء اجتماعية ثانياً، ونزعات أصحاب ثقافة تمتلك أجنحة وهمية في عالم لا تطير فيه إلا أجنحة حقيقية ثالثاً.

في هذا العالم الآخر تبرز أربعة خطوط إنتاج، باستعارة من خطوط الإنتاج السلعي؛ الأول إعادة طباعة كتب تراثية تزحم مجلداتها اللامعة الرفوف بشكل لافت للنظر، والثاني كتب معادة طباعتها صدرت في القرن الماضي، والثالث كتب مؤلفة حديثاً، والرابع كتب مترجمة. وربما يمدّ بعض تجار كتب الشعوذة والسحر خطاً خامساً.

ولكلِّ خط من هذه الخطوط قرّاء ومتحمّسون، ينقلون ما تنتجه إلى عوالمهم أو ينتقلون إلى عوالمها. المقبلون على كتب التراث يرتحلون إلى عالم لم يعد قائماً منذ زمن طويل، أي لم تعد شواغل هذه الكتب ومن سطّرها تمسّ حياتهم في الحاضر إلا من زاوية غموض هذا الحاضر واضطرابه وأسئلته الدافعة إلى البحث عن أجوبة. ولأن كتب التراث لم تُكتب لتجيب على أسئلتهم، أو جلاء غموض واضطراب حاضرهم، فستكون صامتة صمتاً مطلقاً.

ولكن الظاهرة الأكثر بروزاً لدى هذا الصنف من القراء أن كتبهم لن تظل صامتة، لأنهم ينقلون معهم في رحلتهم حاضرهم، وهناك يقيسونه بمقياس ذلك الماضي، أي يصغّرونه ويرسمونه ليتناسب مع صورة ذلك الماضي المفقود، فيتصاغر ويتغيّر ويتطابق مع ذلك الماضي، وتفقد قضاياه معانيها وألوانها وأثوابها، حين ترتدي لباساً وتكتسب معنى ولوناً، وكل هذا فاقدٌ لأي معنى معاصر ومضحك. وهنا تنطق كتب التراث، وتجيب على أسئلة لم تعد أسئلة ذات قيمة للحاضر، وإن كانت ذات قيمة لذلك العالم الذي لم يعد قائماً إلا في مخيلة هذا الصنف من القرّاء. ولكن الأمر لا يظلّ خيالاً، وهنا خطر هؤلاء المرتحلين، حين يتوهّم هؤلاء يقيناً أنهم أحياء فعلاً، فيتعاملون مع محيطهم الواقعي من نافذة خيالهم، أو ما خيّل لهم.

ويعيد أصحاب خط الكتب المعادة طباعتها، بكل أخطاء طبعاتها الأولى، قراءة ما نُشر وتمّت قراءته في القرن الماضي، مجرّداً من ظروف ذلك الزمن، وما أثارته هذه الكتب في حينه، وما أحدثته من هزّات ورجرجة في الأوساط الثقافية. مثل هذه العودة لن تكون مجدية بالطبع، لأن حاضر ثقافتهم لا يصلهم بتلك الظروف، بل يبدو منقطعاً عنها، ولأن الثقافة الراهنة من حولهم ليست ثقافة عمادها التواصل والتوصيل، بل القطع والقطيعة، والاجترار إن أمكن في غالب الأحيان، ولأن الكتب المستعادة لا تثمر إن طرحت نفسها خارج سياق اجتماعي/ثقافي كما نشاهد ونلمس من انعدام فاعلية مثل هذه الكتب، حتى ما اكتسب منها قيمة كبيرة في زمنه.

لدينا أكثر الخطوط أهمية، خط الكتب المؤلفة، العلمية والفنية والأدبية. ونجد أنفسنا منذ اللحظة الأولى نستبعد أن تكون للكتب "العلمية" المعروضة، بفروعها المختلفة، أية قيمة، لسبب جوهري؛ لأنها لا تتصل بما يجري في العالم من تغيّرات اقتصادية وسياسية واجتماعية وعلمية، إلا من زاوية أنها تنقل وتلخص وتنتحل أحياناً، بل وتنتقي بالطبع حين يفضل أصحابها السلامة على الأمانة، أي إنها لا تقدّم معرفة. وكلُّ من هو معنيٌّ جاد بما يحدث في عالم اليوم على هذه الأصعدة وغيرها، سيذهب إلى مظان هذه العلوم، أي إلى الأرض التي تنتجها باللغات الأجنبية، فيتعرّف على العالم من حوله مباشرة. أما الكتب الأدبية والفنية، المنتجة في عالم الخوف، والرقابة الذاتية، أو نزعات ما يطلبه السوق كما يرى تجار الكتب والجوائز، فسيجد أي متابع جاد أنها أدنى مستوى مما كان يُنتج قبل عشرات السنين، رغم اشتغال وسائل الإعلان والترويج على تعظيمها وتفخيمها.

وحين نأتي إلى الخط الرابع، خط الترجمة، نجد كتبه تخضع لإلزامات سياسية وتجارية تجعلها منتقاة، ولا تعكس الجهد الفكري في عالم اليوم بأمانة، وتغلب عليها أخطاء في الترجمة وتغيير وحذف بهذه الحجة أو تلك، كأن يقول المترجم لم نترجم هذا الفصل لأنه لا يهم القارئ العربي! ونكتشف بعض دور النشر تعيد طباعة هذا النوع بكل أخطائه السابقة، ويظل حاضراً في ثقافة يبدو أنها لا تمتلك حتى فضيلة الذاكرة.

الخط الخامس، ومنتجاته بدأت تقلّ، لحسن الحظ، في معارض السنوات الأخيرة، يمتح من مصادر قديمة/حديثة لا زالت تستهوي قراءً لم تلمس حواف حياتهم أضواء العلوم الحديثة. مثال كتب قراءة الطالع، واستشارة الأبراج، أو فتح المندل، وكتب لمدير الفندق السويسري "دينخن" انتحلها كتابٌ عرب، تتحدث عن الحضارات القديمة، فرعونية وأزتيكية وهندية وغيرها أقامتها كائنات هبطت من الفضاء في أزمنة سحيقة. ناهيك عن كتب يروي أصحابها، كأنهم كانوا شهود عيان، أخباراً عن الجن والعفاريت، تذكّرنا بروايات القصاصين الذي كان الناس يتجمّعون حولهم عند ناصية شارع أو باب دكان في العصور القديمة.

دلالات
المساهمون