كمال بُلّاطه.. التجريد بكثير من النور

23 سبتمبر 2015
"وكان النور 7"، أكريليك على قماش، 100×100 سم (2015)
+ الخط -

في معرضه الذي يحمل عنوان "وكان النور" في "غاليري بيرلوني" Berlony Gallery في لندن، والذي سيفتتح يوم غد، ويستمر حتى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، يقدّم التشكيلي الفلسطيني كمال بُلّاطه نتائج آخر تأمّلاته التجريدية واختباراته اللونية.

تعدّ المجموعة الجديدة، والتي تضمّ قرابة عشرين عملاً، امتداداً لتجربة بُلّاطه (1942) وبحثه المعمّق في مفهوم التجريد الهندسي وارتباطه بالتراث العربي والإسلامي. التجريد الهندسي لدى بُلّاطه لا يشبه التجريد في أعمال الفنان الهولندي موندريان الذي تستحضره الذاكرة، بشكل تلقائي، عند الحديث عن هذا التيار.

فعلى العكس من "البرودة"، التوصيف المرافق للتجريد الهندسي أو الرياضي، تتسم أعمال بلاطه بحرارة خاصة؛ ما يقرّبها من عوالم الفنان الروسي الأميركي مارك روثكو، فطاقة اللون الصافية والشفافة تشع في لوحاته، ما يجعلها تضج بالنور والحياة.

في عمل يحمل اسم المعرض، "وكان النور 1"، يتّخذ فضاء مربّع الشكل (100 × 100سم)، نميّز فضاءين متجاورين: الأول تحتله ألوان داكنة، هي الأسود والبني، يفصلهما بشكل جزئي شكل مثلث دقيق. تشعّ اللوحة في قسمها السفلي من خلال الألوان الزاهية (تدرجات الأزرق والبنفسجي والأخضر والبرتقالي) التي اختارها الفنان لتتجاور بأناقة ودقة. أما قعر اللوحة، فيستقر اللون الرمادي ضمن مستطيل رفيع يوازن اللوحة، ليعادل بين الحيّزين القاتم والشفاف.

في مقابل صرامة الأشكال الهندسية والنسيج اللوني المحكوم بعلاقات رياضية صرفة من تجاور وتقابل وتداخل، اختار صاحب "سرّة الأرض" أن يفرش الألوان داخل القطوع الهندسية بطريقة حرة وحيوية، ما يجعلها في حالة حركة متخيّلة.

تبدأ اللوحة في عمل آخر، له الاسم نفسه أيضاً، ويحمل الرقم 7، بمساحات لونية ضيقة، مكثفة ومتجاورة، تتسع تدريجياً في المنتصف، لتنتهي بمساحة وردية باهتة تحتل، تقريباً، النصف العلوي من فضاء اللوحة المربع. اختار الفنان أن يضيف فوق مجموعة القطوع اللونية المتناغمة طبقة شفافة من اللون الأبيض، ما يمنحها غشاوة، وكأننا نراها من خلف زجاج مغبّش.

لا تختلف الأعمال الورقية الصغيرة المنفذة بالألوان المائية عن باقي المجموعة سوى بحضور أكثر تميزاً للّون الأبيض، وأحياناً بأشكال هندسية مستقلة تستقر ضمنها كالخط المستقيم أو المربع. لقد اختار بُلّاطه المربع كـ "فورما" عامة توحّد مجموعة المعرض. ولا يبدو الأمر غريباً، فعلاقة الفنان مع هذا الشكل الهندسي قديمة ووطيدة.

لم تكن بداية مسيرة بُلّاطه الفنية مع التجريد. فالشاب المولع بالرسم، كان يتردّد على مرسم الفنان المقدسي خليل الحلبي الذي اشتهر برسم الأيقونات. رسم بُلّاطه، حينها، البورتريهات وحارات القدس، مسقط رأسه. كما رسم، لاحقاً، بعض الأعمال التعبيرية، إضافة إلى رسوم قصص الأطفال المصوّرة، كما صمّم ورسم الملصق السياسي، وأيضاً أغلفة بعض المجلات كـ "شؤون فلسطينية" و"مواقف" التي كان من هيئة تحريرها.

أثناء تواجده في بيروت، حيث كان يحضّر لمعرض له هناك، تندلع حرب 1967، ليحرم بعدها من حق العودة إلى وطنه وتبدأ مرحلة المنفى. البداية كانت في إيطاليا، حيث درس في أكاديمية الفنون في روما.

"وكان النور 1"، أكريليك على قماش، 100 × 100 سم (2015)


يتابع بعدها الدراسة في "مدرسة متحف كوركوران للفنون" في أميركا التي استقر فيها طيلة أربعة عقود، ليذهب بعدها إلى المغرب بين عامي 1993 و1996، حيث حصل على منحة لدراسة الفن الإسلامي، ومن ثم إلى فرنسا ليستقر، مؤقتاً، في جنوبها حتى عام 2012.

يقيم بُلّاطه حالياً في العاصمة الألمانية برلين التي يفضّلها عن باقي محطاته الأخرى بسبب غناها الحضاري وتنوعها الثقافي، إضافة إلى احتوائها على أهم الدراسات عن الأدب العربي والفن الإسلامي.

وعلى الرغم من شغفه بجماليات الفن الإسلامي، لا يسعى الفنان الفلسطيني إلى إعادة إنتاجها بطريقة معاصرة فحسب، وإنما يبحث عن صوته الشخصي مستلهماً من هذه الجماليات حتماً، كما في مرحلة الحروفية، ومستفيداً أيضاً من تجارب الفن المعاصر التي عايشها في محطات ترحاله الكثيرة.

إلى جانب تفرغه للفن التشكيلي، يمارس بلاطه النقد الفني، إذ يعتبر من القلائل في العالم العربي الذين يجمعون باقتدار ما بين الفن والكتابة. ولعل كتابه "استحضار المكان- دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر" الذي صدر نهاية التسعينيات خير دليل على ذلك. إذ يوثق الكتاب للفن الفلسطيني منذ عام 1850 حتى نهاية القرن العشرين. هذا إلى جانب كتبه باللغة الإنجليزية التي غدت مرجعاً أساسياً لدراسة الفن الفلسطيني.

لطالما شكّل التجريد، بالنسبة للمتلقي العربي، بسبب انحيازه إلى ما هو "تشخيصي"، تحدياً صعباً؛ سواء من حيث استقباله، وبالتالي إدراكه كعمل فني، أو من حيث استخدام اللغة للحديث عنه وتوصيفه. أمام أعمال كمال بُلاطه، يبدو الأمر أكثر يسراً.

فعلى الرغم من صرامة التجريد لديه، إلا أن هناك جاذبية خاصة قلما نجدها في تجارب معاصريه من الفنانين العرب الذين ينتمون لنفس التيار. إنه ببساطة يضع في التجريد الكثير من النور.


اقرأ أيضاً: وكان ضياء

المساهمون