ريتسوس وزائر البريكان الليلي

06 يوليو 2015
بيت ريتسوس في قرية مونيمفازيا جنوبي اليونان
+ الخط -

في أيامه الأخيرة التي قضاها منعزلاً في جزيرة ساموس، كتب الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس (1909- 1990) آخر قصائده، متأملاً صور الفناء، ومسترجعاً ذكرياته البعيدة؛ ذكريات السجون والحب والحلم. ومن كل هذا تشكّلت مجموعة أشعاره الأخيرة "متأخراً، متأخراً جداً.. ذات ليل"، وتقطّرت صور شبيهة بصور حلمية: "فراشات مثل لهب ضائع" أو "جبال مثل دخان" أو "بأيدينا نمسك ظلَّ أيدينا/ الآخرون لا يروننا نمسك بظلنا".

وبعد ربع قرن على وفاته، وبعد ثلاثة عشر عاماً على اغتيال الشاعر العراقي محمود البريكان (1931-2002)، تظهر إلى الضوء صلة مفاجئة بين الشاعرين، أو بين هواجس الليلة الأخيرة التي قضاها ريتسوس في جزيرته مستعيداً مقاطع من قصيدة "حارس الفنار" للبريكان.

وفق ما نشر حتى الآن، وقيل إنه ترجمة لبعض من قصائد ريتسوس على يد الناقد والشاعر عبده وازن، يكتب ريتسوس مستعيداً صور زائر البريكان الليلي:

"والآن استمع، بخفته اللينة
وظله الطبشوري
ومشيته الحافية
هاهو قادمٌ زائر محمود البريكان إياه
قادمٌ يطرق الباب
أو ليس هذا هو الحدس الغامض
الذي كان يلوح لك بين السطور؟
استمع، إنه يقترب، استمع،
إنه يطرق الباب".

وزائر البريكان الليلي المذكور هنا هو ذاته الزائر الذي انتظره في قصيدته الشهيرة "حارس الفنار" المكتوبة في خمسينيات القرن العشرين:

"أعددتُ مائدتي، وهيأتُ الكؤوسَ
متى يجيء الزائر المجهولْ
أوقدتُ القناديل الصغارْ
ببقية الزيتِ المضيءِ
فهل يطول الانتظار؟
..................
أنا في انتظار الزائر الآتي
يجيء بلا خطى، ويدق دقته على بابي
ويدخل في برود".

فهل كتب "ريتسوس" هذه القصيدة فعلاً؟ وهل قامت بينه وبين "حارس فنار" الشاعر البريكان، المجهول تقريباً في الشطر الأعظم من حياته، عراقياً وعربياً، علاقة من هذا النوع؟ ما يجمع بين الشاعرين في الحقيقة يجعل الصلة بينهما مؤكدة؛ العناية بــ "الأشياء" و"التفاصيل" و"الحياة اليومية" و"أسطرة العادي"... إلخ، وليس فقط إلحاح هاجس الطارق في آخر الليل، ذلك الذي حدس به البريكان، واستمع إلى خطواته ريتسوس كما جاء في سطوره.

ذكر البريكان بالاسم تحديداً وهو يمرّ في ذاكرة ريتسوس خلال ليلة من الليالي في جزيرة "ساموس" يكفي لتأكيد هذه العلاقة التي لم تثر دهشتي مثلما أثارت دهشة بعض من لاحظها. فأنا أعرف أن ما يجمع بين الشاعرين على بعد المسافة والزمن، ليس هو تحديداً ما قيل عن اعتنائهما بالأشياء والتفاصيل والأسطرة، بل شيء أعمق من هذا؛ إنه استخدام كلا الشاعرين للأشياء والتفاصيل والأسطرة كوسائل للوصول إلى الإحساس بنبض ما هو كوني. وليس ما أشاعه بعض الكتّاب في الوسط النقدي العربي من أقاويل نسبت سمات شاعرية ريتسوس إلى عنايته بالتفاصيل والأشياء والبسيط واليومي، من دون أن تجد من يكشف عن سذاجتها، وكأن هذا الوسط يعتقد أن غاية عالم الآثار المنقب في طبقات الأرض هي العثور على الجرار وبقايا المباني والحلي وليس معرفة كيف كانت حياة الإنسان.

وهناك شيء آخر جمع بين الشاعرين وجعل أحدهما يقرأ للآخر وعنه؛ سعة اطلاع البريكان على خريطة الشعر في العالم، ومراسلاته الغامضة التي لم يكشف عنها، وصِلاته بعوالم الموسيقى الكلاسيكية، والإنصات في عزلته لأي نغمة أو نبضة تصدر عن كوكب أو نجم سواء كان قريباً أو بعيداً.

وبالعودة إلى الهاجس الذي ألح على "ريتسوس" وأحاله إلى تأملات "حارس الفنار" العراقي، وجدت لدى من أشار إلى هذه العلاقة خلطاً عجيباً وتخيلات لا أساس لها في الواقع؛ فقد اعتقد كاتب في 14/1/ 2013 في جريدة "المدى" العراقية أن "ريتسوس وجد في موت محمود البريكان أنموذجاً تراجيدياً.. وصار هذا الموت شاهداً على عصر لا يحترم مبدعيه"، بل ومضى إلى القول "أعتقد أن ريتسوس يعرف البريكان من خلال نصوصه، وحتماً قرأ له وأعجب به، وطريقة موته البشعة حفزت ريتسوس للكتابة عنه واختصار كل ما عرفه عن البريكان بالإشارة لكنيته.. وافترض بأن عنونة الديوان "متأخراً، متأخراً جداً في الليل" فيها إشارة شعرية للحظة التي قتل فيها البريكان"!

هذا تخليط مثير للاستغراب، فكيف يكتب ريتسوس عن مقتل البريكان في ليلة الثاني من آذار 2002، وهو المتوفى عن عمر ناهز الحادية والثمانين عاماً في العام 1990؟! أي قبل رحيل البريكان عن عالمنا بما يقارب 12 عاماً؟

كنا بأمسّ الحاجة لتصحيح ما تشيعه السذاجة النقدية في الوسط الثقافي العربي، وأصبحنا الآن بحاجة حتى لتصحيح جداول الزمن والعودة للاهتمام بالوفيات وتوثيق أحداث من نوع ولادة وموت الكتّاب والشعراء، حتى لا نصادف أمواتاً يكتبون عن الأحياء، وأحياءً يتم ترحيلهم إلى الماضي السحيق.

المساهمون