محمد عبد الله عتيبي: أم درمان وما بعدها

20 ديسمبر 2015
(من أعمال المعرض)
+ الخط -

ربما هي مصادفة أن ألتقي في لوحات الفنان السوداني، محمد عبد الله عتيبي (1948)، بالأحاسيس اللونية ذاتها التي تمزج المتخيَّل بالواقعي، تلك التي صادفتها لدى فنان سوداني آخر هو راشد دياب (1957) قبل ست سنوات، مع فارق أسلوبي يميّز بين الفنّانين.

بينما الأول تؤطِّر أحاسيسه اللونية خطوط وكتلٌ ومساحاتٌ تشبه في سكونها ما تبثّه الأيقونات على الجدران، تتحرّر ألوان الثاني، المكتشفة والكاشفة، من أي تحديد، وتطلق وهجها على شكل غيوم وأجساد نحيلة نائية وقريبة، كأنما في صحراء.

هذا الإحساس اللوني، على اختلاف تشكيله بين الاثنين، يجعل الأمر أبعد من مجرّد مصادفة؛ بل هو اتساق بين فنّانين من بيئة واحدة، لم تتغيّر كثيراً حين وُلد الأول في الأربعينيات، وجاء الآخر إلى الوجود في الخمسينيات. إنها بيئة أم درمان، كما يحبّ ناقد رؤيتها، وهي بيئة السودان الكبير كما أُحبّ رؤيتها.

في البداية، لم أجد مسوِّغاً للعنوان الذي اختارته صالة "بوشهري" في الكويت لمعرض عتيبي المتواصل حتى نهاية الشهر الجاري: "رؤى سودانية". وتأكّد لديّ هذا الشعور مع تكاثر الملامح المستمدّة من جداريات المقابر المصرية القديمة، والطيور والشخوص بخطوطها البسيطة، وحروف الأبجدية، التي يرسمها القرويون العرب على جدران بيوتهم الطينية، سواءً كانوا في الريف السوداني أو المصري، أو قرى عسير في الجزيرة العربية، أو قرى جبال الأطلس في المغرب.

هذه المشاركة البصرية والفكرية، التي يُمكن أن يلحظها كل من ينتبه إلى هذا الخزّان الهائل من الموروثات الشعبية العربية التي تتخطّى أسوار هذه المدينة أو تلك؛ تجعل المعنى أكثر غنى وشمولاً منه لو اقتصر وعي الفنان على مساحة ضيقة؛ فقال بنيّة حسنة إنه "يعيد اكتشاف مفردات من التراث السوداني". كل هذه المفردات المتلامحة حولنا إن حدّقنا جيداً، تنتمي إلى تراث عربي أكثر عمومية.

أجد لهذا الفن القادم من السودان أفقاً يراد له أن يضيق ويضيق، حتى يُعطى شذرة من هوية، لا هوية أكبر يكتسبها تلقائياً كما يكتسب النهر هويته، وتجد الشجرة في نسبتها إلى الغابة إثراءً لمعنى وجودها.

صحيح أن لوحات هذا الفنان تمنحني إحساساً بمكان خاص، لنقل بما هو سوداني؛ نزعة التلوين، وتبسيط خطوط الأشكال البشرية إلى درجة تحويلها إلى ظلال، وغلبة الألوان الحارّة، لكنها تستلهم الجداريات السودانية/ المصرية/ الآشورية/ السومرية/ الكنعانية.. إلخ. ها هنا هوية فردية، لا تصل إلى كامل أفقها إلا حين تتخطّى فرديتها إلى هوية جماعية.

مهما بالغ في فرديته، تظل قيمته في انتمائه إلى حضارة وثقافة، لا تقومان إلا في عالم الكلّي والشامل. وما تبثّه هذه اللوحات من إيقاعات وأحاسيس وأشكال بصرية؛ تتجاوز السودان، عاصمة وقرى ونهراً ونخيلاً وحمائم، إلى ما هو أبعد. ومرّة أخرى، لا أجد مسوغاً لحشر الفنان في هوية جزئية، ومسمى يُفقر معناه بدل أن يغنيه.



اقرأ أيضاً: صلاح المر: أشخاص على وشك المغادرة

المساهمون