سيرة الكلمة وصوتها

02 ديسمبر 2015
(الخرّاط في 1993، تصوير: نبيل بطرس)
+ الخط -

لم يخلُ مشروع إدوار الخرّاط (1926 - 2015) على مدار سنوات حياته، والتي انتهت صباح أمس، من خطوات ضاربة ومفكّكة لمفاهيم سيطرت على الرواية العربية والإبداع بشكل عام، وصفها بـ"التقليدية". تلك التي حصرت الفن، والكاتب، والقارئ عند مرحلة النمذجة والنمط، ليبدو مشروع الخرّاط مشروعاً لا ينتمي إلا للحرية، ويشير إلى الفتى التروتسكي في شبابه الذي عاشه في إسكندرية مقاومة للاستعمار.

كان مفهوم التحرّر عند الخرّاط، قد اتخذ هدفاً آخر، كان متجهاً صوب النص، وضرورة تحريره من الموجة البلزاكية والتشيخوفية، ومن الاتجاهات الأكاديمية والانتماء إلى مدارس بعينها، أو تيار سائد بعدما رفض أنماطاً مختلفة ظهرت في الفن كمرحلة الواقعية الاجتماعية التي وصفها في كتابه "الحساسية الجديدة" بـ"صاحبة العطاء المحدود".

كتب الخرّاط، في عمل تنظيري آخر، هو "مهاجمة المستحيل": "أريد أن تكون الرواية أو القصة، في ظني عملاً حراً، والحرية من الثيمات والموضوعات الأساسية، ومن الصبوات المحرقة اللاذعة التي تتسلّل دائماً إلى ما نكتب، الحرية المتحقّقة والمحبطة معاً، التوق إلى العدالة وإلى الجمال، نشوته بالحس وصوفيّته بالمطلق، مأساته الكونية المحتومة كإنسان، وقدره المجيد في مجابهتها".

تبدو هذه المفاهيم وهذا الحس تحت تأثير خلفيات الخراط السياسية، إلا أن هذا التأثر ما لبث أن أخذ منحى تنظيرياً ممنهجاً ومجدِّداً، بعدما وضع يده على ما سمّاه بـ"الحساسية الجديدة"، وبدأ رحلته في التحطيم حتى على فكرته الأولي النابعة من ماضيه السياسي، فبدا ينفر من توجيه معانٍ معيّنة في الفن على أسس سياسية وأيديولوجية، معتبراً ذلك منافياً لصحة أو مصداقية الفن.

طمح الخرّاط أن تكون للقصة أو الرواية لغتها التي يمتاز كل مقطع فيها ببراءة الخلق الأول، "أن تتمرّد على شبهة القالب، إلا إذا استخدمت القالب نفسه ضد القالب". إذن، كان القالب، بحسب صاحب "ترابها زعفران"، سلطة في حد ذاته، لا بدّ من مجابهتها بالضد لإنقاذ وإحياء "ما تحت الركامات من جوهر ثمين حي" وذلك بإرباك قواعد السرد السائد.

حرص الخرّاط ألا تكون نزاعاته مع التقليدية أو الحساسية القديمة مجرّد نزوات. وعلى مدار مشروعه، كان كمن يحلّل كل ما يضيفه إلى مشروعه الجديد؛ فبدأ يفكّك فكرة التقليدية ذاتها، ورأى في التراث العربي ما هو وظيفي تماماً ومتّسق مع مشروعه، فنظر مطوّلاً في "لزوم ما يلزم" للمعري كما التراث الصوفي؛ "فالحرف عند الصوفيين ليس مجرّد اللفظ بصوت ما، ولكن له دلالات شققوها لأنفسهم، هي دلالات تتّصل بتمثيل أو تجسيد ما لا يمكن تمثيله أو تجسيده".

بدت تلك المفاهيم تتسلّل إلى ما هو خارج الفن والرواية، وبدأ صاحب "رامة والتنين" بالانتباه إلى فكرة الديناميكية التي توفّرها الموسيقي، وقرابة ذلك بعلم الصوتيات في اللغة، وما قد يوفّره الصوت من دلالة في الكلمة المنصوصة والمنطوقة، فكانت الموسيقى هذا النوع من التعبير الذي تمتثل له اللغة الحية المتحرّرة من الأنماط، وفتح أفقه على المسرح، فحلّل الدراما في كتاب "دراسات في فن المسرح" ورصد تطور بداياتها، ثم ربط مشروعه في الكتابة بالدراما التي تحرّر وتفتح مجالاً أوسع للتعبير والتجريب.

مع تشكّل جماعة "غاليري 68" في مصر، بدا مفهوم "الحساسية الجديدة" الذي نظّر له، يأخذ طريقه إلى الفن التشكيلي الذي بدأ يرفع من مستوى التجريب ويتحلّل من المدارس والاتجاهات، عبر إعادة تشكيل الفن بما يدرأ عنه قيم الاستهلاك التي فرضها التأثّر بقيم البرجوازية التجارية في الفن في الغرب.
في حوار له مع عبد النبي فرج، في 2012، تحدّث الخرّاط عن الكولاج باعتباره لا يبعد كثيراً عن فكرة تحرير اللغة وهو الذي أقام أربع معارض خاصة به للكولاج؛ "الكولاج هو قص ولصق لعناصر موجودة، فهو إعادة تشكيل يكسب هذه العناصر دلالات لم تكن قائمة فيها وهي على صورتها الأصلية أي علي تشكيلها الأصلي. الفن كله ليس إلا إعادة تشكيل الوجود بمعنى من المعاني".

لم تكن "الحساسية الجديدة" مجرد نزوة كاتب تمرّد، لذلك فهي فكرة لا زالت تؤثر بعيداً عن مجال إطلاقها الأصلي. ففي مقال له، تحدّث الكاتب المغربي عز الدين بوركة، عن أثر مفهوم "الحساسية الجديدة" على الحركة التشكيلية في المغرب، إذ يقول أن "الفن المفاهيمي فتح الطريق، سنوات الستينيات من القرن الماضي، نحو القطع النهائي بين النشاط الفني والجمالي، صار العمل الفني غاية في ذاته بعيداً عن السند والحامل، عن اللوحة والإطار".



اقرأ أيضاً: مرثية الغيطاني
المساهمون