اختتمت منذ ساعات، في "المكتبة الوطنية" في تونس العاصمة، فعاليات الاحتفال بـ "اليوم العالمي للفلسفة" التي انطلقت أمس، تحت عنوان "اقتسام الكونية والمواطنات الجديدة"، وقد صادف أن المواضيع المطروحة وافقت ما يشغل الرأي العام العالمي بقوة اليوم.
خلال يومي التظاهرة، حاضر مشتغلون في الفلسفة من جنسيات عديدة؛ هم الإيطالي باولو كوانتيلي والبرتغالي ديوغو ساردينها والفرنسي باتريس فاريمين والجزائريان رشيد دحدوح ومحمد الجديدي، إضافة إلى فتحي التريكي ومحمد محجوب وحميّد بن عزيزة وفتحي انغزو وعبد الباسط بن حسن وزهير المدنيني ورجاة العتيري ومها بشيري وعبد الرحمن التليلي ونجيب عبد المولى ومنيرة بن مصطفى وعبد العزيز لبيب من تونس.
في المحاضرة الافتتاحية التي جرت أمس، انطلق الفيلسوف التونسي فتحي التريكي من ملاحظات تخصّ الراهن السياسي العالمي حيث أشار إلى أن "الحرب صارت وسيلة ديبلوماسية"، وهو ما يعقّد تمثّل الكونية في لحظة كهذه، منوّهاً إلى أنه لا يستعمل المصطلح بالمفهوم المتداول اليوم، والذي تخترقه الهيجيمونيا، معتبراً أن "الكونية السطحية بالضرورة سيئة".
يوضّح التريكي سبب رهانه الفكري على الكونيّة (التي نجد أثرها في معظم مؤلفاته)؛ حيث يرى أنها على عكس مفاهيم مثل حقوق الإنسان أو الديمقراطية، ليست اختراع حضارة بعينها، وإنما هي مبدأ يمكن توفيره في أي إطار فكري، حتى أنه موجود في الأديان السماوية.
من جهة أخرى، يؤكد التريكي أن "الثقافات لا تتحاور كما يُشاع، فهذه كذبة كبرى، لا يوجد لقاء بين الثقافات سوى من خلال حسن الضيافة أو العدوانية، وكل وضع منهما قابل للانقلاب إلى الثاني في ظروف معيّنة". من هنا، يشير إلى ضرورة اشتغال الفسلفة على أخلاقيات حسن الضيافة، وهو ما يمكن أن يحقق الانتقال من اقتسام العالم (الاستعمار والحروب العالمية) إلى اقتسام الكونية.
في محاضرة أخرى، أقيمت صباح اليوم، تحدّث المفكر الإيطالي باولو كوانتيني عن "الأنوار اليوم"، حيث تقصّى تاريخ مصطلح المواطنة، منذ ظهوره الصريح في القرن الثامن عشر مع بروز الاهتمام بالشأن العام لدى أفراد من الطبقة البورجوازية.
يشير كوانتيني إلى أن الموطنة تركّزت مع موسوعة ديدرو ومفكّري الأنوار، ثم سرعان ما تداخلت مع فكرة "الإنسان" مع ظهور مبادئ حقوق الإنسان. بعد ذلك يتساءل: ماذا طرأ على المفهوم من موسوعة ديدرو إلى موسوعة ويكيبيديا؟
يعود كوانتيني إلى ماركس الذي وضع مفهوم المواطنة فوق طريق الفلسفة حين بيّن أن "الإنسان مدفون تحت المواطن، والمواطن ليس سوى البورجوازي".
بهذا المعنى، فإن حقوق الإنسان تصبح حقوق قلّة محتكرة للحقوق. يستمر كوانتيني في عرض تطوّر مفهوم المواطنة مبيناً كيف أخذ يرزح تحت جبروت الاقتصاد السياسي ثم تحت جبروت الجغرافيا السياسية، لينتهي بعد ذلك إلى الحديث عن مخرج يتمثّل في إيجاد فضاءات تجعل من العقل وقيم المواطنة شعبية، وهو أمر يمكن سحبه على الثقافات التي ينبغي أن توفّر أماكن التقاء بينها، ويعتبر أن البحر الأبيض المتوسّط شكّل تاريخياً نموذجاً طبيعياً لذلك.
في محاضرتها، قدّمت رجاة العتيري ورقة بعنوان "إجراءات الكونية"، حيث انطلقت من عمل كانط "مشروع سلام عالمي دائم" لتبيّن نقاط ما سمّته بـ "دستور كوسموبوليتي" يجري تطويره باستمرار (رولز وهابرماس) في سبيل أن تتحاشى البشرية المصير الدموي الذي تظلّ تتعثّر فيه.
ترى العتيري أنه على مرّ التاريخ، جرت تسبقة الأشياء الثانوية على الأولويات مثل فكرة التضامن والأعمال الخيرية قبل إرساء حقوق الإنسان، أو الحوار قبل إيجاد الفضاءات العمومية ومأسستها، وخصوصاً تسبقة السياسة على الأخلاق.
عملية القلب هذه جعلت الفرصة التاريخية لإرساء سلام عالمي مهدورة دائماً منذ كانط. وتضيف العتيري أن الاشتغال على الكونيّ لم ينته بعد، وهو يجابه نفس الأعداء (الأمير/ الحكومات)، فإذا كانت الحرب ناتجة في السابق من جرّاء الاستبداد (هتلر، ستالين..) فهي اليوم تنتج بقرارات من حكومات ديمقراطية.
اقرأ أيضاً: ريجيس دوبريه: اليتم الرمزي وخطاب التسامح الفوقي