استبداد التراث

14 يناير 2015
عبد القادر أرناؤوط / سوريا
+ الخط -

لا يستطيع العقلُ العربيّ الفكاكَ من تراكمات معرفية ممتدّة في أعماق 14 قرناً، هي ما يصطلح عليه بالتراث. تراكمات أنتجتها حِقَبٌ زمنية مختلفة وظروف تاريخية متباينة، مثل أيّ منجز إبداعي بشريّ.

وإذْ نشأت عبر التاريخ الإسلامي مجموعات من المعارف نتيجة الواقع الحضاري المستحدث على خارطة الدولة الإسلامية المتّسعة الأطراف، وهو واقعٌ صاحَبه في البداية فورانٌ ثقافي وثورة معرفية مشهودة، فإنّ مرحلة التدوين، التي بدأت تتألّق في القرنين الثاني والثالث الهجريين مع نشاط علمي وعقلي كبير، سرعان ما خفتت أضواؤها، لتتحوّل عن جادة الطريق لخدمة المذاهب الفكرية المتصارعة، حتى تحوّلتْ أنشطة الحركة العلمية شيئاً فشيئاً إلى عمليات منظّمة لاجترار الماضي وإعادة تصنيعه.

وقد مرّ بالأمّة زمنٌ تضخّمت فيه المكتبة العربية بالمدوّنات الكبرى من الشروح والمتون والموسوعات التي قصدت تجميع المواد العلمية المتناثرة للسابقين، ثم دخلنا زمناً كان التأليف فيه مقتصراً على اختصار الشروح ثم الحواشي على المختصرات، ثم إعادة شرح الحواشي.. وهكذا دواليك.

فمثلاً، يمكن للمطّلع رصد الحواشي اليمَنيّة المخطوطة والمطبوعة على تفسير "الكشاف" للزمخشري، حيث سيرى كمّاً ضخماً من المؤلّفات الفرعية التي أنتجتها الأجيال اللاحقة على هذا الكتاب وحده. أو يتتبع مسيرة كتاب ضخم مثل "الكمال في أسماء الرجال" للمقدسي، وما تلاه من مختصرات، مثل "تهذيب الكمال" للمزّي، ثم "تذهيب التهذيب" للذّهبي، و"تهذيب التهذيب" و"تقريب التهذيب" وكلاهما لابن حجر، ثم أخيراً وليس آخراً "تقريب التقريب" لباحث معاصر... وغيرها الكثير من الأمثلة المشابهة.

وربما كانت هناك حاجة منطقية في بعض الفترات الزمنية لهذا النوع من التأليف، يرجعها بعض الباحثين إلى اللهاث لاستنقاذ التراث القديم من الضياع، بعد ما ألمَّ بمكتبات بغداد على أيدي التتار.

وفي ظلّ هذا التكدّس في المؤلّفات، فإنّه من الطبيعي أن يصطدم التراثيّون بكمّ هائل من التباين والتناقضات، خاصّة في مجال العلوم الإسلامية، لكنّهم في العادة يدفنون رؤوسهم في كثبان من المقولات الهلامية التي يردّدونها لتبرير هذه الحالة الفكرية المضطربة، مثل عبارات: "النصّ حمّال أوجه"، "الاختلاف عند السلف اختلاف تنوّع لا اختلاف تضاد"، "اختلاف الأمّة رحمة"! وذلك دون أن يرهقوا عقولهم في تحليل الأوجه المختلفة التي فسّرها السلفُ للنصّ، وحمّلوها له عنوةً، ودون تمييز "التنوّع من التضاد" في اختلافات القدامى، ودون برهنة الرحمة المقصودة في الاختلاف.

فالتراث أمامهم يتمتّع بحصانتين، الأولى: حصانة الأسماء المشهورة التي نُسبت إليها تلك الأقوال والأحكام والتفسيرات والأصول. والثانية: حصانة الزمن، وأثر الإلف والعادة في نفوس المتلقين، الذين آثروا الاتكاء على خيارٍ وهميّ أحياناً ومطّاطٍ أحياناً أخرى يُسمى: "فهمَ السّلف".

وفي كلّ مرّة كانت تخرج فيها صيحة ناقدة تدعو إلى إعادة النظر في الموروث الذي يتمّ تقديسه، وربما تكييفه سياسياً لخدمة الأنظمة المتعاقبة، تظهر محاكم التفتيش، فتحرق المؤلفات، وتشوّه الشخصيات، وتسجن المفكّرين، أو تنفيهم.

ولا شكّ أنه في كلّ عصرٍ من العصور كان ثمة صراع بين المتطلّعين إلى التجديد والمتشبثين بالماضي، غير أنّ مستوى الجرأة على التراث، هو الذي ظلّ يتزايد شيئاً فشيئاً حتى استحال الصراع إلى دعوة متشنّجة إلى القطيعة بين الماضي والحاضر. فمثلما يتشبّث الأصولي بتراثه دون إعادة اختبار لمقولاته القديمة، يتشبّث الحداثيّ بضرورة القطيعة الشاملة مع تراثه والارتماء في أحضان ثقافة أخرى أو تراثٍ آخر لأمة من الأمم.

ويبدو أن هذا التشنّج أصبح حالة عامة أصابت الأصوليين المتعصّبين وخصومهم التنويريين معاً، فلم يكن فقهاء التنوير أكثر حصافة في تقديم نقد منهجي رشيد للتراث، يقيّمه موضوعياً، دون أن يحمل عليه وفق قناعات مسبقة أو وافدة.

وقد وجدنا أنفسنا في العصر الحديث نشاهد لقطات "طريفة" من الثورة المتشنّجة على الماضي، لأنها ثورة تحمل في طيّاتها الاعتراف بعدم القدرة على الخلاص من هذا الماضي المتغلغل في شغاف النفس، فسلامة موسى يجهر بدعوته إلى القطيعة مع التراث باعتماد "اللغة العامية"، بحجة القضاء على ازدواجية اللغة عند المصريين، ثم بالدعوة إلى "الكتابة بالحروف اللاتينية" باعتبارها لغة الحضارة ووثبة حتمية نحو المستقبل. لكنّه كتب هذا بلغة تراثية فصيحة، وفق قواعد اللغة العربية ونحوها الموروث، فلم يكتب موسى كلمة واحدة بالعامية، ولا خطّ سطراً بحروفٍ لاتينية!

وفي مقابل دعوته التجديدية للانقطاع عن تلك الثقافة التراثية المتخلّفة التي تعود لأربعة عشر قرناً، والتي تقف عائقاً أمام التحديث والتحضّر، حاول موسى أن يُقنع قرّاءه بأن يعودوا إلى "الثقافة الفرعونية" القديمة التي ترجع بنا لآلاف السنين! أي أنّه دعا إلى هجر التراث العربي لصالح ما هو أقدم منه.

أما طه حسين، فقد بدأ حياته ناقداً مجدّداً ثائراً على التراث العربي لصالح التراث اليوناني، حينَ أكّد في نظرته لـ "مستقبل الثقافة في مصر" على أنّ عناصر العقل العربي كلّها، شأن العقل الأوروبي، ترجع إلى أصول ثلاثة: ثقافة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفنّ، وحضارة الرومان وما فيها من سياسية وفقه، والمسيحية وما فيها من دعوة إلى الخير.

لكنّ "العميد" عاد لينبش في التراث العربي، بشقّيه الأدبي والديني، لدرجة بدا فيها أنّه يخالف مبدأه التجديدي، فحين كتب "على هامش السيرة"، ونقل فيه من حكايات التراث المكذوبة التي أعاد صياغتها وزاد فيها وتفنّن، اعتذر في مقدّمة الكتاب لمريديه من دعاة التجديد، الذين قد يصدموا بهذا العمل، مشيراً لهم بأن العقل الشعبي يحتاج لشيء من الخرافة للتسلية و"حتى يستريحوا من جهد الحياة وعنائها"!

على مرّ تاريخها، أنتجت الحضارة العربية الإسلامية مجموعةً من الحزم المعرفية التي تنتمي إلى دائرة العلوم الإنسانية، التي تقوم على الاجتهادات العقلية والاستقراء أكثر مما تقوم على التجريب والبرهان المادي، ومن ثمّ كان الاختلاف داخل تلك الحِزم كبيراً، يصل في بعض الأحيان لدرجة التناقض، فنشأت علوم النحو والبلاغة والأدب والتاريخ والتفسير والفقه والحديث والعقيدة وغيرها. وكان في داخل كل علمٍ منها مذاهب مختلفة وتيارات متعارضة.

وعلى الرغم من ذلك، فإنّ خصوصيّة "القبضة التراثية" العربية وسطوتها، تعود في المقام الأوّل إلى أنّ تلك التراكمات المعرفية ارتبطت تاريخياً بخدمة "الفكرة الدينية" ودعمها، تفسيراً وتحليلاً وتوجيهاً، ومن ثمّ توهّمت الأجيال قداستها، أو على الأقلّ ظنّت فيها الصواب الذي لا يدانيه صواب.

والعقلُ المتعطّش روحياً لا يجد بُدّاً من العودة إلى أصوله، والارتداد لماضيه، فينهل منه معارفه الأوّلية، ثمّ يلقّنها لذويه، فتبقى معارفه تلكَ محفورة في زوايا العقل، مهما حاول إخفاءها، فالفكر العربي، إجمالاً، سلفيّ الهوى تراثي المعرفة، ملتزمٌ بالنسق الموروث إلى حدّ بعيد.

فالعقل البشري هو الأزمة.. وهو الحلّ أيضاً. فكثير من المسلمات التقليدية المتراكمة، إذا قام "العقل" بتفكيكها وتحليلها منهجياً وجدنا أمرها لا يستقيم.


* كاتب من مصر 

دلالات
المساهمون