قدّم ماركيز درسه الأكبر حينما أصدر سيرته الذاتية "عشتُ لأروي"، فالكتاب الذي أراده أن يكون بمثابة كواليس لنصوصه، أو حديقة خلفية لها، أو حتى فضحاً لأسرار الكار، علّمنا أنّ ذلك السرد الذي فتن العالم مشتقٌّ من حياة عادية تشبه أية حياة أخرى، وأنّ تلك الشخصيات الآسرة أناس عايشهم وعرفهم، لكن المفتاح: "كيف تُحكى الحكاية"؟
الروائي والصحافي بيلينيو ميندوثا آبييلو صديق ماركيز، الذي سبق وأجرى معه أفضل الحوارات (نُشرت في الكتاب الشهير "رائحة الجوافة") عاد وأصدر في السنة الماضية كتاب "غابو- رسائل وذكريات" عن مرحلة الشباب والضياع.
يومها كان ماركيز في العشرين، وميندوثا في السادسة عشرة، حيث عاشا البؤس معاً في باريس، وسافرا إلى بلدان الاشتراكية، وعملا في فنزيلا وهافانا، وكانت بينهما مراسلات مستمرة. كما حوى الكتاب رسائل وصور لم تنشر من قبل، كرسائله وهو يكتب "مائة عام من العزلة" و"خريف البطريرك"، التي يصف فيها معاناته الشخصية وهمومه في الكتابة. إضافة إلى ألبوم من الصور غير المنشورة من قبل. كتلك الصورة الكوميدية، قبل لحظات من تسلمه جائزة "نوبل"، حيث جميع أصدقاءه بالبدلات، فيما هو بالملابس الداخلية. كما يتطرق الكتاب إلى الوضع الصحي الذي وصل إليه، حين بلغ مرضه مراحله القصوى ولم يعد يتذكر أصدقاءه. لكأنّ ميندوثا يكتب هنا لينقذ تلك الذاكرة.
حينما حصل المترجم صالح علماني على الكتاب سارع إلى قراءاته، وراح يسرد لنا بعض تفاصيله الصغيرة، سواء من الحوادث الطريفة، أو مما يضيء جوانب خفية من رواياته. فمثلاً يتحدث الكتاب أنهما (ماركيز وميندوثا) حين زارا موسكو، وشاهدا جثمان ستالين المحنط، قال له ماركيز، بعد خروجهما للتمشي في "الساحة الحمراء": "هل انتبهت إلى اليدين؟"، "أي يدين؟" سأل ميندوثا، "يدا ستالين" قال غابو، "ما بهما؟" استهجن رفيقُه، "إنهما أشبه بيدي امرأة" قالها بدهشة من يكتشف أمراً عظيماً. وهنا يعلّق ميندوثا: "بعد سنوات طويلة من ذلك، سيضع تينك اليدين لديكتاتور روايته "خريف البطريرك".
تجاوز تأثير غابرييل غارسيا ماركيز في الثقافة العربية تأثير الكاتب المترجَم عن ثقافة أخرى، ليصل إلى درجة تأثير ابن اللغة والثقافة ذاتهما. الفضل يعود على الأرجح إلى ترجمات صالح علماني ("مؤلف الظلّ" كما يدعوه أصدقاءه) ذلك أن الترجمات الأخرى ظلت تُعامل بوصفها ترجمات عادية، بينما ذهبت جهود علماني إلى نوع من تجذير كتابات ماركيز في العربية، فحتى الأمثال الشعبية الكولومبية والأمريكية اللاتينية جاءت بنكهة شعبية عربية.
عوالم الواقعية السحرية وجدت صدى مزلزلاً عندنا وقد خصص الناقد الرشيد بوشعير كتابه "أثر ماركيز في الرواية العربية" ليوضّح مساهمة ماركيز في تحرير الكتابة الروائية العربية من جفاف الواقعية التي ارتهنت لها طويلاً.
كانت الأسئلة التي تقلق "غابو" في أمريكا اللاتينية هي ذاتها التي تقلقنا في "شرق المتوسط"، وناهيك عن هول التشابه بيننا هنا، وبينهم هناك؛ كان الفن الروائي هو التعبير الأبلغ عن العالم الثالث، ليس في حركات تحرره ونضاله ضد الدكتاتورية والامبريالية وبحثه عن العدالة المفقودة، بل في كسره للمركزية الأوروبية كمرجعية روائية.
"شهرزاد عصرنا" فيها الكثير منا.. ماركيز عربي إلى حد كبير.