فأي رواية تقترب زمنياً ومكانياً وظرفياً من تفاصيل واقعية تخصّ مؤلّفها. وإن اتّخذ الراوي ضمير المتكلّم، فقد يُطرح سؤال حول مدى واقعية هذه الرواية في حياة مؤلفها؛ أي مدى نسبة "السيرة الذاتية" الحاضرة في الكتاب.
يمكن طرح هذا السؤال، مجدداً، في ما يخص رواية "متشرداً في باريس ولندن" (1933) للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، الذي أثار خلال زمن طويل أسئلة عديدة تخصّ مدى واقعية ما يحتويه الكتاب، ومدى احتمال أن يكون سيرة ذاتية أكثر من كونه رواية.
كانت قد أُثيرت، يوماً، شكوك بأن صاحب "مزرعة الحيوان" قد تعمّد أن يُسجن حتى يعيش موضوع الكتاب العازم على تأليفه.
اليوم، عاد السؤال بعدما بتّ الباحث الأكاديمي، لوك سيبر، بالموضوع، في صحيفة "الغارديان" البريطانية، إثر وصوله لسجلات محكمة تفيد بأنه تمّ اعتقال أورويل بتهمة أنه كان "مخموراً وعاجزاً" غرب لندن حيث كان يعمل كعتّال للسمك باسم إدوارد برتون. وهما اسم وشغل وهميّان اخترعهما صاحب "1984" ليتم اعتقاله، وبالتالي، ليستطيع اختبار ما يمكن أن يقدّم له مادةً يؤلف كتاباً على أساسها.
وقد أشار أورويل إلى ذلك في مقالة كتبها عام 1932 ولم تُنشر في حينها، يسرد فيها 48 ساعة قضاها في مركز رعاية تمّ جلبه إليه بعدما أسرف في شرب الكحول، موضّحاً أن غايته من ذلك كانت أن يتم اعتقاله، ليشعر بطعم السجن وليقترب أكثر من المتشرّدين. بعد الكشف عن سجلات المحكمة المعنية، صارت هذه الأسطر مثبتة كوقائع.
تتناول الرواية/ السيرة حياة صحافي إنجليزي يجهد لإيجاد عمل في باريس ويعيش بجوع وعوز متنقلاً بين أرخص فنادق المدينة وبين غرفة لصديق له، يضطر لرهن كل أغراضه وملابسه ويعمل أخيراً كمنظّف صحون ضمن ظروف عمل قاسية. ثم يعود إلى لندن موعوداً بعمل هناك، لكنه سرعان ما يجد نفسه متنقّلاً مع متشرّدي المدينة بين مراكز الرعاية التي تؤمّن لهم مأكلاً ومنامة بحدّهما الأدنى.
والأحداث التي يرويها في كل من المدينتيْن، تنمّ عن معرفة من الداخل بحياة المتشردين هناك، ما أثار في السابق أسئلة حول مدى واقعيتها لدى أورويل، حتى تم إثباتها أخيراً.
لكن السؤال الأشدّ اتساعاً يبقى مُشرعاً: إن كان الكتاب سيرة ذاتية أتت على شكل رواية، وليس العكس، فأي من أحداثه الكثيرة عاشها فعلاً أورويل، مع العلم أنها أحداث تتطلّب أشهراً طويلة لعيشها ثم سردها، لا 48 ساعة فحسب؟