"17 تشرين في لبنان": توثيق الانتفاضة

22 فبراير 2023
من انتفاضة تشرين الأول 2019 (Getty)
+ الخط -

عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثًا كتاب "انتفاضة 17 تشرين في لبنان: ساحات وشهادات" لبول طبر وخالد زيادة وزياد الصائغ وفوزي يمين وجميل كرم وعبيدة تكريتي وغيث حمود ومحمد أبي سمرا ووليد حسين.

الكتاب الذي أعده وأشرف عليه خالد زيادة ومحمد أبي سمرا، يندرج من الناحية المنهجية في ما يُطلق عليه اسم "التاريخ الراهن أو الآني"؛ إذ ينصبّ الاهتمام فيه على رصد الأحداث من خلال المراقبة واستخدام الوثائق والشهادات المخطوطة أو الشفهية. وينتمي التاريخ الراهن إلى التاريخ السياسي؛ لأنه يهتم بالأحداث الثورية والتحولات الناتجة من الاضطرابات والانتفاضات، كما يتطرق إلى أحداث اقتصادية أو ثقافية أو غيرها.

يؤدي الكتاب جزءًا كبيرًا من مهمته في توثيق الانتفاضة، ودراسة بعض مقدماتها ومجرياتها وتحولاتها، كما يحفّز النقاش حول ما حققته وما أخفقت في تحقيقه، ويسهم في إنتاج دراسات وأبحاث عن الانتفاضات واجتماعيات السياسة في لبنان والبلدان العربية الأخرى.

يندرج الكتاب من الناحية المنهجية في ما يُطلق عليه اسم التاريخ الراهن أو الآني

بين عامَي 2011 و2019، شهد لبنان ثلاث مناسبات تظاهر فيها ناشطون في الشارع؛ ففي عام 2011، على وقع الثورات العربية التي اندلعت في ذلك العام، هتف متظاهرون أول مرة في بيروت بشعار الربيع العربي الشهير: "الشعب يريد إسقاط النظام". ولم يجابَه مئات المتظاهرين الذين تظاهروا آنذاك خلال بضعة أسابيع، بالقمع، خلافًا لما كان يحدث في ليبيا ومصر وسورية؛ حيث النظام يعني الرأس الحاكم الذي يحتكر الدولة ويصادر السياسة. أما النظام في لبنان، فموزع بين مجموعة من القوى والتيارات الحزبية الطائفية التي انقسمت في موقفها من الثورة السورية، بين مؤيد لها وداعم للنظام الحاكم في دمشق، بحسب الكتاب.

ويشير الكتاب إلى أنه يمكن اعتبار التحركات التي عرفها لبنان قبل عام 2019 أشبه بإرهاصات اندلاع الغضب يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر، تعبيرًا عن رفض شطر كبير من اللبنانيين سلوك قوى السلطة وانحيازاتها وفسادها. وخصوصية كلٍّ من تركيبة النظام اللبناني وعلاقة الدولة بالمجتمع، لا تمنع قراءة "17 تشرين" في سياق ثورات عام 2011 العربية؛ فما عُرف بـ "الربيع العربي" ترك أثره في لبنان من خلال التعاطف الذي أبدته كثرة من الناشطين، وخصوصًا مع الثورة السورية التي اتخذت الحكومة اللبنانية آنذاك موقفًا محايدًا منها تحت شعار "النأي بالنفس".

غلاف الكتاب

وتوضّح الشهادات أن قِوى 17 تشرين استطاعت استقطاب الرأي العام في الأشهر الستّة الأولى فحسب، وبمساندة نسبية من وسائل إعلام خاصة، مع العلم أن الإعلام اللبنانيّ هو في الأساس مُستقطَب من قِوى المنظومة الحاكِمة، بصورة كاملة أو له فيها حصص متفاوتة. وكان التنافس الإعلامي على أشدِّه إيجابيًّا في توجيه رسائل هادفة في تلك الأشهر الأولى، ثم حلَّ خفوت، واعتلت المنصّاتِ الإعلاميّةَ شخصيّاتٌ فضّلَت عدم حصر نفسها في الانتماء إلى مجموعةٍ أو جهةٍ أو ائتلافٍ، وفي هذا شخصانيّة مستغربة سوّغها بعضهم بالحاجة إلى إبقاء الحِراك بلا وسمٍ قياديّ، تفاديًا لإفساح مجال تصفيتهم، وهو تسويغ لم يكن مقنِعًا. ثم إن الرسائل المشتَّتة والتلهّي ببعض الصراعات الداخليّة في المجموعات أجهضت إمكان دخول الحِراك في احتراف مخاطبة الرأي العام، وخَلق كتلة حرِجة. لا يعني هذا أبدًا أنَّ خلافاتٍ استحكمت حول عناوين معركة التغيير، بل على العكس، كانت المعركة موحَّدة، وكان التفاوت والتمايز في التكتيك الذي يكون في بعض الأحيان أخطر من الاستراتيجيا في حال فقدانه حُسن الإدارة.

وتشير إلى أنه في المعركة الفاصِلة بين قِوى 17 تشرين وقِوى المنظومة الحاكِمة تبرُز الاستحقاقات الانتخابيّة مِفصليّةً؛ ما يعني إعادة تكوين السُلطة لاسترداد الدولة، وصناديق الاقتراع تحسُم الأمور، وهذا ما نجده في الديمقراطيّات الطبيعيّة. لكن في لبنان، نُهِشَت الديمقراطية وشُوِّهت مفاهيمها، وأُلبِست ثوب التوافقيّة زورًا، وحوّلتها قِوى المنظومة الحاكِمة إلى نوعٍ من حقّ نَقضٍ مُكتَسَب لمكوّنات العاملين ضمن إطارها. لم تتطرّق قِوى 17 تشرين إلى معضِلة تأجيل الانتخابات البلديّة والاختياريّة، ولا إلى إقناع السُلطتَين التشريعيّة والتنفيذيّة بالدّعوة إلى انتخاباتٍ فرعيّة لملء الشغور في مقاعد النوّاب المستقيلين، مع احترام مبدأ فصل السُلطات. ولم تُحرِّك هذه القِوى ساكنًا في الطعن بهذا التقاعس والتأجيل، وما زالت قِوى المنظومة الحاكِمة تقوم بما تراه ملائمًا لمصالحها.

أمّا في جدّية الاستعدادات للانتخابات النيابيّة، فقد اعتراها كثير من التشوّهات؛ أوّلها عدم بروز لوائح ائتلافيّة، أقلّه في ما يُعنى بالتحالفات؛ ثانيها عدم توفّر قاعدة للمرشّحات والمرشّحين، على عكس ما تسوِّقه بعض الجهات في المجتمع المدنيّ التي تستند إلى تمويلٍ هائل وأجنداتٍ حزبيّة، ولو غير مُعلنة؛ ثالثها احتدام الصراع بين قِوى تقليديّة، رغم التقائها على معركة السيادة؛ رابعها غياب نشاط علميّ في استطلاعات الرأي يساعد في تحديد طبيعة المرشّحات والمرشّحين المفترض خوضهم المعركة وفرص نجاحهم؛ خامسها تجاهل أهميّة مخاطبة عقول القواعد الناخِبة كي تُحسِن الاختيار؛ سادسها ضُعف مُلاقاة الجهود الاستثنائيّة التي بذلتها الدياسبورا اللبنانيّة لإحداث تحوُّل في أرقام المقترعين من رجال ونساء لمصلحة القِوى التغييريّة. وهذه التشوّهات الستّة تحتاج إلى معالجة سريعة بعيدًا عن صبيانيّات العلاقات العامّة والفولكلوريّات الشكليّة، ومآدب الثرثرة المتنقّلة، أو مجموعات الـ "واتساب" التي استحالت في وجه من وجوهها إلى "ستاتيكو" استِعراضيّ لتسجيل موقِفٍ ليس إلا، وفق الكتاب.

المساهمون