يَستخدم پرويز شاپور (1923 - 1999) أدقَّ خطٍّ في رُسوماته وأوجز كلمة في كتاباته. لم تحظ نُصوصه بالاهتمام في مجلَّة "توفيق"، حيث كانت بداياته وحيث كان يُطلَق عليه بسخرية لقب صاحب المسوّدات أو صاحب الورق الأسود. ممَّا دفعه للقول: "لديَّ الكثير من العمل الذي يُهدِّد جيل الكتاب الأبيض في المستقبل". فحتَّى ردوده الوجيزةُ السَّريعةُ البديهةِ وطُرَفُه كانت معروفة باسم "دار مجانين الفكاهة".
■
يروي عمران صلاحي في مذكِّراته كيف اعتاد پرويز أن يجمع كلّ قطعة ورق متبقِّية على مكتبه أو من سلَّة مُهمَلات ليكتب ويرسم فوقها، في فِعلٍ تلقائيٍّ كان ذا قيمة عاليَّة بالنِّسبة له. ولكنَّه كان، في ذُروة عمله، غير مبالٍ بما قد يحدث من تَرحيب به في المشهد الثَّقافيِّ الإيرانيِّ: "حتَّى لا يتدخَّل أحد في عَملي، لم أفعل شيئًا منذ فترة".
انحاز إلى الرُّباعية كشكل شعري واستمدَّ مضامينها العميقة
بعد تَجربته غير الموفَّقة في مجلّة "توفيق"، نأى بنفسه عن مُحرِّري هذه المجلة السَّاخرة، لينضمَّ عام 1968 إلى موجةِ المطبوعات الفكريَّة. نُشرت قصصه ونصوصه السَّاخرة الشَّذريَّة في مجلة "خوشه" (عنقود) تحت عنوان Cariclamator، التَّجنيسُ الّذي ابتكره الشَّاعر الحداثيُّ الأساسيُّ أحمد شاملو. نفس النُّصوصِ استلهمها عمران صلاحي لإبداع اسكتشات فكاهيَّة. ممَّا فتح لشَاپُور، خلالَ السَّنواتِ نفسها، تعاوناً مع الشَّاعر جواد مجابي في مجلَّة "جهان نو" (العالَم الجديد).
قضى شاپور معظم أوقاته تلكَ الأيَّامَ مع أصدقائه في "كافيه أنوش"، بشارع نادري (الجمهورية)، و"كافيه سلمان"، و"كافيه نادري". مع إقبال الجمهور على أسلوب عمل شاپور، نشر، عام 1970، كتابه الأوَّل في فنِّ "الكاريكلماتور" الصادر عن دار "نمونه" (نموذج). بعد ذلك، وعلى مدار سنوات متقطِّعة، نشر مجلَّدات أُخرى من مجموعة كتاباته الكاريكاتورية (8 أجزاء) وصدرت عن دُور نشر عديدة، مثل "بامداد" (أفق)، و"مرواريد" (جوهرة)، و"دنيا".
■
شهدت ثمانينيات القرن الماضي زخَم تعاونٍ شاپور مع "مجلّة كل آقا" الأسبوعية، وكانت الأشهَر من بين عشرات المجلّات والصحف الساخرة. بالتزامن مع ذكرى صدور طبعتها الأسبوعية، أصدرت المجلّة ذاتها المجلّد السادس من أعمال شاپور ضمنَ احتفالية كُرِّم فيها بمناسبة سبعينيَّته وتقديرًا لمُنجزه في ابتكار وترسيخ فنّ "الكاريكلماتور" على مدى عدة عقود.
■
استطاع شاپور، بموهبته الفريدة أن يستلهم من الأدب الفارسيِّ الكلاسيكي كلّ أساليب التَّفكُّه والسُّخرية والدُّعابة، إذ أخذ من الشِّعر الكلاسيكيِّ عناصر الفكاهة المبثوثة في القصائد: المقطوعات والرُّباعيَّات والغزليَّات؛ بتلميحاتها، وتورياتها، وغموضها، وتشويقاتها، وقلبها، وتوازياتها، وتكراراتها، وعامِّيَّتها المقتضَبة المقتضِبة (الَّتي تتناسب والفكاهة الوعظيَّة)، كما استلهم من الأدب الحديث المتزامن مع الثَّورة الدُّستورية (1905 - 1911)، والحقبة التي تلتها أشكال الحكايات والرُّسوم التوضيحية، القصص القصيرة والروايات، وهي نثرية في مُجملها.
■
تَنْدَغِمُ كلمة كاريكاتير مع مفردة كلمة في الشَّكل الأدبيِّ الَّذي أسسه پرويز شاپور، والذي أخذ مكانةً له في الأدب الفارسيِّ الحديثِ باعتباره فنًّا في القول يُمكن إدراجه في باب العبارة القصيرة أو النَّثر البسيط، الذي يتمحور حول موضوع واحد، وفق خصائص: البساطة، والوضوح، والتَّركيز والإيجاز. سِماتٌ جعلته فنَّا عصريًّا ينسجم مع أشكال شذريَّة عديدة في خرائط أدبية كونيَّة متنوِّعة: "اللَّاندي"، و"الهايكو"، و"الرِّينڴا"، و"الأفوريزم"، و"البيت المفرَد" الشَّائع في المدرسة الهندَّية من الشِّعر الفارسي ("السَّبك الهنديُّ").
■
ثمَّة، ربَّما، أسباب أُخرى لاهتمام شاپور بكتابة النَّص المُوجز المُكثَّف؛ إحداها أنَّه كان شديدَ الاهتمام برباعيَّات الخيَّام، التي حفظها، منذ طفولته، عن ظهر قلب؛ ومن الطَّبيعيِّ أنَّ هذا الشَّكل الشِّعريَّ الوجيز، والذي تضمَّن أعمق الحِكَم البشرية، قد حفَّز شاپور على الاستمرار في مشروعه الإبداعي؛ ويُقِرُّ أنَّه انحاز إلى الرُّباعية، دون باقي الأشكال الشِّعرية واستمدَّ منها الكثير من المضامين العميقة، أكثر بكثير ممَّا قد يَتَحصَّله المرء من قراءة ديوان قصائدَ طويلة. كما يؤكِّد شاپور أنَّ بعضَ ما واجهه في مرحلتي طُفولته ومراهقته كانَ ذا تأثيرٍ بالغٍ في بلورة فنِّيَّته: "كلما رأيتُ شيئًا لفت انتباهي وجئت للحديث عنه مع والديَّ، لم يفهما ما كنت أقوله. لقد تعرَّضتُ للضَّرب عدَّة مرَّات بسبب ذلك".
■
لم يكن هذا الشَّكل الفنِّيُّ، على النَّحو الرَّائج اليوم، جملة ساخرة تتضمَّن مفارقة تثير الضَّحك، كان "الكاريكلماتور" بالنِّسبة لپرويز تلخيص عالَم من الكلام في عبارة واحدة تدفع المتلقِّي إلى التَّأمل العميق، يمكن مقاربته بسطر شعري مستقلٍّ مُقتبس من قصيدة، أو إدراجه في مجاراة نصوص الهايكو السَّاخرة. فليس اعتباطًا أن يعترف أردشير محصَّص، وهو فنَّان كاريكاتور إيرانيٌّ ذو شهرة عالميَّة، في أكثر من لقاء، أنه استمدَّ العديد من أفكاره من أعمال پرويز.
■
عاش پرویز شاپور حياة أليمة. فعلى الرغم من أنَّه كتب نصوصًا ساخرة للغاية، فقد حضر الحزن والأسى بقوَّة في معظمها، كما سرعانَ ما رسمَ، رغم ذلك، الضَّحك على شفاه الجمهور. ومن نصوصه البليغة في هذا الشَّأن: "الحزن يسرق ضحكاتي".
■
جلب انفصالُه عن فروغ فرُّخزاد الحطام إلى جسده وروحه، إلى درجة أنَّه لم يستطع الخروج من تحت أنقاض تاريخه الشَّخصي وانتشالَ نفسه. فقد ارتبط اسمُه باسم فروغ فرُّخزاد، الشَّاعرة التي ودَّعت العالم بوفاة مأساويَّة في الثَّلاثينيات من عمرها. عن تلك العلاقة تنقل شقيقة فروغ الشَّاعرة والباحثة بوران فرُّخزاد: "ينتسب پرويز لعائلة تربطها بعائلتنا علاقة قرابة من ناحية الأمِّ؛ على مدار سنوات، كانت تربطنا بهم أيضًا علاقة جوار، كان بيت عائلته ملاصقًا لبيتنا في طهران، لكن من الجهة الخلفيَّة، حيث كان باب دارهم يقع في زقاق آخر. في أوَّل زيارة عائليَّة، لامس كلام پرويز شغاف قلبي وقلب شقيقتي فروغ، كان بإمكان المرء أن يرى الضّحكة، لا الابتسامة، مرسومة على وجهه؛ فتحت حكاياته الرَّائعة أفقًا جديدًا لنا بحُكم أسفاره وتجاربه، خلافًا للمحيط الذي كنَّا ننتمي، أنا وفروغ، إليه؛ وهو فضاء محدود وشبه مُغلَق. واجه طلبه خطوبة فروغ رفضًا قاطعًا من قبل أبي وأمي؛ وبسبب هذا الرَّفض حاولت فروغ - كانت في الرابعة عشرة من العمر - الانتحار. وبعد إصرارها رضَخ والداها للأمر، وانتقلا للسَّكن في مدينة الأهواز، حيث كان پرويز موظفًا حكوميًّا؛ ولكنَّ هذه الزِّيجة لم تستمرَّ لأكثر من ثلاث سنوات؛ ومنذ لحظة الانفصال، دخل پرويز في عزلة مُطلقة، ويُمكنني أن أقول عنه: هو أكثر الرِّجال وفاء وإخلاصًا لحبيبته فروغ، ولعلَّ أهمَّ منجز في هذا الانفصال هو أنَّه صاغ شخصيَّة كلٍّ منهما".
استلهم من الأدب الفارسي الكلاسيكي أساليب السُّخرية والدُّعابة
وتُضيء رسائل فروغ فرُّخزاد إلى پرويز جانبًا من شخصيَّته ومكانته لدى شاعرة طغت شهرتُها على ذُيوع اسم طليقها، الذي كان يرى المجد في العزلة والانزواء: "تُدرك جيِّدًا أنَّني لا أخاف من أيِّ شيء. وإن صمَّمت على أمر مَّا، فلن يحول شيءٌ دون تحقيقه. ولكنَّ معاناتي تتلخَّص في أنَّني جعلت حياتك مريرة لبعض الوقت، وأنا آسفة لأنَّني لا أستطيع أن أكون راضيَّة مثل النِّساء الأخريات، فلديَّ الكثير من الرَّغبة والأمل في قلبي، ولا يمكن أن ترضيني حياة الرُّوتين اليوميِّ. ولا شك أنَّني سوف أصرخ ذات يوم، من أفكاري ومن عبء العذاب الثَّقيل الَّذي أحمله، ومرَّة أُخرى سوف أطلب منك المساعدة لأنَّه ليس لديَّ أحد غيرك؛ صحيح أنَّك دائي، ولكن صحيح أيضًا أنَّك دوائي، ولا أعرف ماذا أسمِّيك، أنا أحبُّك، أنا أحبُّك كطفل يحبُّ عناق أمِّه الدَّافئ أكثر من أيِّ شيء آخر، وإن عاقبته أمُّه بقسوة، فسوف يلجأ إلى حضنها مرَّة أُخرى". لم ينبس بكلمة واحدة عن فروغ، بعد انفصاله عنها، ولا حتَّى بعد رحيلها المفجع بحادث سير عام 1967.
■
ليس بدافع الهروب من الواقع، وعلى عكس الآراء التي قدَّمت انطوائية پرويز كحصيلة مخاوف من مواجهة الحقائق، يمكن قراءة أعماله، خصوصًا تلك ذات الطَّابع السَّاخر، باعتبارها نقدًا لجميع أنواع التَّسلط الاجتماعيِّ ونقدًا للنَّشاز وغير الصَّائب من السُّلوك الإنسانيِّ، مع حذرٍ تامٍّ من الوقوع في فخِّ الموعظة وإصدار الأحكام الأخلاقيَّة، كسمتين ارتبطتا بالنُّصوص السَّاخرة في أعمال أسلافه من الشُّعراء الفُرس الكلاسيكيِّين: سنائي، وأنوري، وسوزني السَّمرقندي وسعدي الشِّيرازي. فقد غيَّر پرويز من مضمون القول السَّاخر؛ إذ، خلافًا للسُّخريَّة الكلاسيكيَّة، ارتبطت عباراته بالحياة اليوميَّة، مع فتحها على بُعدٍ وُجوديٍّ تساؤليٍّ. ولم يستبعِد النُّقَّاد أن ترتقي مقولاته، ذات يوم، إلى مصافّ الأمثال الشَّعبيَّة.
■
كان يُؤمن إيمانًا راسخًا بتخطيطاته وكلماته السَّاخرة. وبحُكم هذا الإيمان، أصرَّ على أن يُصمِّم شاهدة قبره على طريقته الخاصَّة: تخطيط أقرب لبُورتريه ساخر مع تعليق بأسلوبه المعتاد ذاته: "قلبي أكثر مدن العالم اكتظاظًا".
■
نجح پرويز شاپور في خلق أسلوب جديد في الأدب الفارسيِّ، قُيِّمَ نقديًّا على أنَّه أسلوب ناجح، لقبوله جماهيريًّا وذيوعه. ويحسب لمنجزه أنه يتضمَّن تعقيدًا يُثير دهشة القرَّاء ويُسهم في تغيير رؤاهم عن الوجود. ينضاف إلى ذلك منحه المفردات اليوميَّة المألوفة والهامشيَّة مَلْمَحًا جديدًا.
■
في عصر تستحيل فيه، أحيانًا، قراءة كتاب من بدايته إلى نهايته، يسرُّني أن أقدِّم للقارئ العربي - ولأوَّل مرَّةٍ في ما نظنُّ، كنصوص وكرسومات - هذه المختارات التي يُمكنه أن يشرع في قراءتها من أيَّة صفحة يشاء، آملًا أن يشقَّ هذا الشَّكلُ الأدبيُّ طريقَه إلى اللغة العربيَّة، على غرارِ أشكال أدبيَّة وافدةٍ إلينا من ثقافات أُخرى، اصطبغت لاحقًا بخصوصية عربية.
* شاعر ومترجم عراقي مُقيم في هولندا