"أنتم لا تقرأون كتبي من أجل الحبكة"، يقول الكاتب النرويجي يون فوسه (1959). حاز فوسه في الأعوام الماضية معظم الجوائز الأدبية المرموقة في بلده، وأتاحت لنا، حديثاً، القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية التعرّف على مجموعة مختارة من الروايات الصادرة العام الماضي، ومنها سباعية فوسه "الاسم الآخر" (في مجلَّدين)، والتي تليها "أنا هو الآخر" (ثلاثة مجلّدات)، وتنتهي بـ"اسم جديد" (مجلّدان)، وهو الكتاب المنتظر صدوره بالإنكليزية في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل عن دار النشر البريطانية Fitzcarraldo Editions.
يأخذنا فوسه، في "الاسم الآخر"، في رحلة مع رسّامَين شابَّين يملكان الاسم ذاته، "أسل"، ويعيشان في مدينة بيرجن النرويجية. أسل الأوّل رجلٌ مدمن على الكحول، تزوّج وطلّق مرّتَين، ويعيش مبعداً عن أولاده، مع كلبه. أمّا أسل الثاني فأرمل، يعيش في عزلة قاتلة، مع طيف زوجته الميتة، أليس، التي يظلّ يتذكّرها، يتذكّر أرجوحتها، كلماتها، صمتها، شعرها، أناملها، لون بشرتها. يصرّ على وجودها. إنّها بالتأكيد ليست ميتة. يراها حيّة، شهيّة، مثل غودو بيكيت.
خلال قراءة النص، نرى التقاطعات الفلسفية، ونستطيع أن نلاحظ تشابه الأسماء، الذي تعمّده فوسه. فهذا النصّ ليس نصّاً قصصياً سهلاً. هو ليس بالقصصي عموماً، كما يقول صاحبه. فالحبكة تكاد تكون معدومة، ولن نجد تصاعداً في الأحداث، بل سنجد شبح بيكيت وغودو أمامنا في الصفحات المائة الأولى من الكتاب، وبعدها يظهر لنا الصيّاد، أسلك، الذي تربطه علاقة قوية مع أسل الثاني، الذي نتابع رحلة شيّقة معه ومع ماضيه الذي لا ينضب.
يكمن ذكاء روايته في أسلوبه، وليس في الحكاية التي يقدّمها
يكمن ذكاء هذا النص في أسلوبه، وليس في حكايته، فهو يتعمّد التكرار، لكنه ليس ذاك التكرار المنفّر، بل هو تكرار شاعري يحثّك على الشك، إذ يشرح أشياءه، ومن بعدها يشرح تلك الأشياء مجدّداً، ثمّ يشرحها مرّة أُخرى، ما يجعلنا نشعر بنوع من الشكّ الفكري، ذلك الشك الذي يحثّ على التفكر في الأشياء تماماً مثل غودو. منحَ هذا الأسلوب النصَّ طابعاً فريداً من نوعه، فهو مكتوب في فقرات مطوّلة، محشوّة بالتكرار. نرى أليس الميّتة، أو المنتحرة إذا صحّ القول، على أرجوحتها، تطير، وتجلس على الأعشاب، وتنام، وتستيقظ، ثمّ نراها مجدّداً على أرجوحتها تصرخ: "هيا، أريد أن أطير". ونرى أيضاً علاقة الكاتب بقراءات من الإنجيل، يكرّر الدعاء بشكل مزمن، ونلاحظ هذا الأسلوب طيلة القراءة حتى الصفحة الأخيرة.
تعدّد الأصوات في هذا النص ليس تماماً تعدّدَ الأصوات المتعارف عليه، كما هو الحال في "خريف البطريرك" لدى ماركيز، أو "طائر الليل البذيء" لدى خوسيه دونوسو. تعدّد الأصوات لدى فوسه شيءٌ مختلف، فنحن نرى أسل يشرح ذاته، ويشرح ذاته كأنّها شيءٌ مستقلّ عنه، ومن ثم نراه يشرح ماضيه ويصفه كأنّه شيء حاضر، ويتكلّم مع أليس كأنّها حية، ويطلب منها أن تكفّ عن المجيء إلى ذهنه. استخدام الأفعال شيء مربك وشائك في هذا النص، والتنقّل في الأزمنة، وكأنّها زمن واحد، يتطلّب براعة تُذكّر ببراعة بروست في تشريح الزمن. ولا نعرف، بالمناسبة، إن كانت صدفةً محضة كتابةُ رواية من سبعة أجزاء، كما هو الحال مع سباعيّة بروست في "البحث عن الزمن المفقود".
عملُ فوسه كُتِبَ بجهد كبير وملحوظ، ويحتاج إلى تركيز عالٍ أثناء قراءته، فهو ليس للقارئ الذي يبحث عن قصّة عادية، بصوت واحد، أحادي الأبعاد، بل هو صوت واحد محمّل بعشرات وربما مئات الأصوات داخله. تشابُه الأسماء ليس بالتأكيد من محض الصدفة، فهو متعّمد لإرباك القارئ. ولأنّ فوسه يريد منّا أنْ نرى نصّه قطعةً واحدة، قائمة لا تنفصل، ولا تُستأصل، فلا يمكننا أن نحكي عن أسل الأول من دون أن نحكي عن أسل الثاني، ولا يمكن أن نشرح عن أسل الثاني من دون أن نأتي بأليس الميتة أو ألسك الصياد. ويشعر القارئ أثناء القراءة بأن كل هذه الشخصيات شخصٌ واحد، نفسٌ واحدة، أصوات أسيرة جسد واحد معبّأ بالذكريات والحزن. وكما نرى أليس، نستطيع أن نرى ألبيرتين بروست، وغودو بيكيت، وآدا نابكوف.
ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يُلحّ فوسه على الظهور بهذا الشكل المربك، المثير للدهشة؟ إنّه شيء يشبه التقمّص، ولا نستطيع أن نرى تفسيراً آخر مقنعاً لهذا الأسلوب، سوى أنّ فوسه يريد أن يرى نفسه في كلّ شيء، داخلَ جميع الأرواح. لكن يقوم بهذه اللعبة بطريقة ذكية، ويغلّف كل شيء بالحزن. الحزن أساس هذا النصّ. ذلك الشيء الذي يستولي على الجسد، ويشلّ الحركة، وكما يقول فوسه في "اسم العمل": "إنني أشهق الأحزان وأزفرها".
* كاتب من فلسطين