تُرجمت بعضُ أعمال مُؤرّخِ الفِقه الإسلاميّ يوزف شاخت (1902 - 1969) إلى الفرنسيّة، ولا نخال أنّها نُقلت إلى الضاد، باستثناء نزرٍ يسيرٍ لا يُجلي للقارئ العربي مَدى دقّتها وفائدتها. ولذلك، يبعدُ أن تكون مقولات هذا الباحث الألمانيّ - البريطاني قد أُدمجت ضمن المعرفة العلميّة بالتراث الفقهيّ لهذا القارئ، في حين أنّ التّاريخ بدأ يتجاوز بعضَها من دون أن يستفيد منها العرب والمسلمون، وهم أوّل المَعنيين بأعمالٍ في مثل هذا العمق.
ومن أهمّ هذه الأعمال ــ وقد باتت مَراجع موثوقة في الغرب طوال عقود طويلة دون منازعٍ ــ يمكن أن نذكر "مدخل إلى الفقه الإسلامي" (أوكسفورد، 1961، والذي تُرجم إلى الفرنسية سنة 1991)، و"أصول التشريع المُحمّدي"، (أكسفورد، 1950)، هذا بالإضافة إلى تحقيق العديد من المخطوطات في دواوين الفقه وأصوله.
يعود اهتمام هذا المؤرّخ بالإسلام إلى رغبته الكبيرة في إجراء مقارناتٍ بين التشريع والقانون الوضعيّ الغربيّ، وإظهار المميّزات العامة لهذه المنظومات القانونيّة المتباينة، بكلّ مقوّماتها وخَصائصها، كما تطوّرت عبر التاريخ الطويل. وقد أتاحت له معرفته الدقيقة بالقانون الرومانيّ والبيزنطي إجراء مثل تلك المقارنات حول قواعد فرعيّة صِيْغت في كلٍّ من المنظومَتَين، خصوصاً ما كان منها مُتعلّقاً بملكيّة الأراضي وطريقة توزيع المياه وقسمتها والعقود التجاريّة وصيغ الإيجار والتملّك والإعارة والاقتراض وسائر المعاملات التي كانت سائدةً في الإمبراطورية البيزنطيّة ثم تَوارَثتها الخلافة الإسلاميّة، بعد فتحها لتلك الأراضي والبُلدان التي كانت تحت إمرتها.
درسَ الفقه بوصفه خطاباً مفارقاً لانشغالات المجتمع
وتندرج هذه الأعمال، التي كُتِب جلّها في النصف الأول من القرن العشرين، ضمن حقل الدّراسات التاريخيّة للقانون ومتابعة أهمّ التطورات التي عرفها الفقه عبر منعطفاته، فقد كان يوزف شاخت متمكّناً من السياقات التاريخية التي نشأت فيها هذه المنظومة وما شهدته من تطوّرات، حيث دَرسها في الحقبة الأولى للنبوءة ثم في أثناء الخلافة الأمويّة فالعبّاسيّة والعثمانيّة، كذلك خصّص بعض الفصول لقوانين الدّول العربيّة والإسلاميّة قُبيل الاستقلال وبعيدَه، مع عَرض صارمٍ للقواعد الفقهيّة التي أُعيد إنتاجها وتدويرها ضمن المدوّنات الوضعيّة ومقابلتها بما كان سائداً في المذاهب الإسلاميّة التقليديّة.
ولا يُخفي القارئ إعجابَه بمدى قدرة الرجل على الانتقال بين المَذاهب والمَدارس والإحاطة بتفاصيل الخلافيّات والفروق فيما بينها، وتطوّرها جميعاً عبر التاريخ. إذ تتعلّق أبحاثه بطبيعة النصّ الفقهي والفتاوى والأحكام الشرعيّة، ومقابلاتها بالتغيرات الحديثة في عصرنا، مع الإلمام التامّ بكلّ السّياقات التاريخيّة والمعرفيّة التي أنْتَجتْها، بعد تفصيل الحَديث عن آليات توليد تلك القواعد ونصوصها وآفاقها دون إسقاط أو تَشويه، مع ربطها الوثيق بنصوص أكابر الفقهاء ومصادرهم من القرآن والسُّنّة والتّذكير بآليات الاستنباط، ومقارنتها بما كان سائداً في القانون الروماني ثم في القوانين الأوروبيّة الحَديثة.
ولئنْ اندرجت هذه الأعمال ضمن علم الإسلاميات بمعناه الاستشراقي، فإنّ هذا الباحث، على وجه الخصوص، اجتهد في تعقّب هذا الحقل المتشعّب وموضوعه الصارم، بقدر الطاقة، مع الإلمام بتطوّراته دون إسقاطٍ أو تَشويهٍ أو اتخاذ مواقف أيديولوجيّة صريحة، مثل ما نجده اليوم لدى أنصاف المثقّفين الذين يتكلمون عن الشريعة، ويجزمون بكلّ بساطةٍ بأنها اختلاقٌ وأساطير، من دُون العودة الى مَصادرها وتموّجاتها، ولا معرفة تعقّد البناءات التي شَيّدتها عبر العصور.
تجديد النظر في التراث الفقهي من أوليات التحديث اليوم
ولا يخفى اندراج أعمال شاخت في السّياق الاستشراقي وحمله لكلّ بصمات هذا النموذج المعرفيّ ونقائصه وحتى تجنّياته ومناهجه التي كانت ضمن دائرة اللامُفكَّر فيه في العقل الإسلامي. فهي تَحمل أيضاً برودَة بعض المواقف المُوغلة في وضعيّتها. ولكنّ عَمَله التاريخي ومقارناته وطريقة عرضه تظلّ حقلاً ثقافيّاً لا بدّ من إحيائه والعودة إلى ما فيه من عميق الملاحظات ومتين الاستنتاجات، ويكون هذا بعد إتمام ترجمة كُتبه وتسييرها بين الناس ومناقشتها وفحص مسلّماتها ومصادراتها، مع أنّ التاريخ تجاوزها. وكما انتقد محمد أركون المستشرقين، ظلّ يوزف شاخت يدرس منظومة الفقه باعتباره نظاماً مغلقاً على ذاته، ولم يَصلْه بعمليات التوظيف والأدلجَة وصراع الطّبقات الاجتماعيّة وتشابك المَصالح السياسيّة، بحيث بقيت دراسته منصبّة على الفقه بوصفه خطاباً مُغلقاً، غير منفتح على تحدّيات المجتمع.
ومع ذلك، فمن المفيد الاطلاع عليها وتحيينُها والقطع مع الدّعوات التبسيطيّة ومع معارك الجهل بالفقه التي تَسود المشهد الإعلامي والثقافي العربي بمناسبة وبغير مناسبة، حيث ينبري هؤلاء الأشباه إلى الانتقاد السريع للفقه، ويجيب مسؤولو "الأزهر" و"الزيتونة" و"القرويّين"، دون تمكُّنٍ من أدبيات الجدال ولا سياقات التاريخ، ما يفضي في الغالب الى حوار الصمّ. ولعلّنا نتدارك بعض ما فاتنا، من هذا الركب، في سبيل تجديد النظر في التراث الفقهي الإسلامي الذي يُعد على رأس أوليات التحديث اليوم.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس