يوتوبيا الميدان

25 يناير 2021
من غرافيتي في القاهرة
+ الخط -

كأننا نعود بالذاكرة بعيداً جدّاً حين نتحدّث عن أيام "ميدان التحرير" التي بلورت في مشهد واحد انتفاضة الشعب المصري ضد منظومة حكم حسني مبارك. كانت لحظة قطيعة جماعية رَكّبت مربّعاتِ فسيفسائها مختلفُ الشرائح الاجتماعية والأجيال، وأحضر كل طرف ما لديه من آمال وأفكار وموسيقى وصور وذكريات؛ هكذا - تماماً كما يُبنى عشّ - تحوّل ميدان التحرير إلى زمن مواز، جمهورية عفوية انبثق منها هواء نظيف بعض الوقت...

في 25 يناير 2011، وتحت أصداء أحداث التغيير المتسارع في تونس، انتزع المصريون قلب القاهرة من قبضة النظام مُثبتين أن قدرة الضبط مجرّد وَهمٍ منذ أن يتحرّك شيء ما في ضمير الناس. انتصر - ولو لحين - الجسدُ البشري والصوت البشري على الأجهزة. بدأ التفاعل بين الحاضرين يصنع غيمة كبيرة من أحلام إعادة ترتيب كل شيء. ليس في مصر وحدها، بل في مجمل البلاد العربية. 

هذا الحلم الذي حاول القطع مع الخمود والبرود والفساد وفقدان المعنى كان اليوتوبيا التي أنتجها ميدان التحرير. ولعلّه لم ينتج سواها، فتغيير الرؤساء يحتاج إلى كواليس وتغطية دولية، وتبديل الدساتير ليس أسهل منه لدى رجال القانون.

يوتوبيا ارتسمت في أيام معدودة قبل أن تتنشّط التسميمات تحت غطاء التخويف من الفوضى أو بتسريب ضمن الأفراح بتنحّي مبارك، ثم ضمن الإيهامات بضرورة العودة إلى الحكمة العليا لكهنة القانون والعسكر. كيف يحتمل جسد الحلم الوليد جرعات التسميم هذه؟

اليوتوبيا قابلة للتفعيل في كل وقت، لأنها تركيبة أفكار وأحلام

كي تتفعّل، تحتاج اليوتوبيا إلى التصديق الجماعي. يمكن أن نضرب مثلاً من تاريخ مصر نفسه. "ثورة يوليو" التي لم تكن أكثر من انقلاب، غير أن تصديق اليوتوبيا النابعة منه قد حوّلها إلى ثورة إلى حين. هذا درسُ تاريخٍ يبدو أن "الدولة العميقة" قد أخذته في اعتبارها أكثر من الشعب. في 2011، اجتهد المتآمرون سريعاً على قطع الطريق على كل تصديق لليوتوبيا بأدوات القوة والتزييف ورسم المسارات الوهمية.

دارت الدوائر بسرعة، وأجهضت المتناقضات الثاوية في تربة مصر الحلم بُعيد تبرعمه. جرت فبركة "كتلة تاريخية" خلف انقلاب عسكري. ماذا لو أن يوتوبيا ميدان التحرير كان لها مثل حظ هذا الانقلاب، فوجدت هي الأخرى "كتلة تاريخية" تسندها؟ 

تسري اليوم نبرة ساخرة كلما جرى التطرّق إلى أحلام ميدان التحرير. لقد جرى تحويل اليوتوبيا إلى أضحوكة. لكن مهلاً، هذا الأمر طبيعي. اليوتوبيا ليست سوى إشارة لاتجاه ما. نقطة ضوء في مشهد مظلم. ليس أكثر. عصر التنوير الذي يمجّده الأوروبيون مجرّد يوتوبيا. دولة العمّال التي ناضل من أجلها الاشتراكيون كذلك. كل حق يُنتزع بعد أجيال كان مجرّد يوتوبيا.

ثم إن اليوتوبيا قابلة للتفعيل في كل وقت، لأنها تركيبة أفكار وأحلام. لقد وُلدت ذات يوم في هذه الأرض وقُضي الأمر. هي الآن كامنة. لعلّها في بياتها الشتويّ. يوتوبيا ميدان التحرير كانت لمعة برق كي نتمثّل لاحقاً ما في البلاد من كوابيس. ومن يملكون العصي وأدوات بث الإحباطات لا يد لهم على ضمائر الناس وهناك تعيش اليوتوبيا. 

أخيراً لو تساءلنا: لماذا تنتج الشعوب اليوتوبيا؟ ببساطة لأنها تحتاجها.. ولو لاحقاً.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون