يواخيم سارتوريوس.. زمنٌ سحيق تمتصّه إسفنجة الليل

يواخيم سارتوريوس.. زمنٌ سحيق تمتصّه إسفنجة الليل

31 يوليو 2023
يواخيم سارتوريوس، 1999 (Getty)
+ الخط -

عزيزي يواخيم

كثيراً ما أجدني أفكّر فيك، أفكّر في تلك القصائد التي تُترجِم شعريّة تفاصيل الحياة اليومية. مجرّد تسمية الأشياء. أتذكّر لقاءنا الأوّل في ذلك المساء البعيد عند بوّابة "معهد غوته" الداخلية في تونس؛ البوّابة ذات الحديد الأسود المشبك المُغطّى بالزجاج، وقد جئتَ لتُدشّن هذه البناية. كانت يوهانا هي التي قدّمتني إليك. أتذكّر ابتسامتك وصوتك الذي لا أدري أيّ سحرٍ وهدوءٍ يبعث في نفسِ مستمعك... كلماتُك القليلة وملاحظاتك المُقتضبة الحازمة نقيض المناخ الهستيري الذي كان يملأ محيطي. أتذكّر قاعة المحاضرات البيضاء الكبيرة المشرعة، وليل الربيع "الريلكي" (نسبةً إلى راينر ماريا ريلكة) يهبطُ على الحديقة، والأضواء المشتعلة وضجّة كراسي الشبّان والبنات وهُم يغادرون القاعة، وابتسامتك النبيلة، وتلك النعومة في نظرتك التي نلمسها حتى في صورك.

قلتُ وأنا أصافحك: "أكيد أنتَ شاعر"؛ هكذا فجأةً. وعبرَتْ شعاعةٌ خاطفةٌ في عينيك مثل لمعة سمكة ذهبية صغيرة في فجرٍ غامض. لم يكن لديك أيّ سمْتٍ للموظّف المؤدّب المنضبط: قميصٌ هفهاف من الكتّان الأبيض تحت سترة زرقاء داكنة. كنتَ تقفُ على درج العتبة الرخامي تهمُّ بالصعود تحت قوس البوابة. ثمّ رأيتكُ مرّةً أُخرى، ذات ليلة، في مورناو، مدينة الرسّام كادنسكي، كنتَ قادماً من تركيا أو البرتغال، وحملتَ معكَ عُلبة حلوى شرقية. أيامها، قرأتُ ديوانك "المنضدة تكون باردة"، وأدركتُ شيئاً من عالمك. أدركتُ كيف يتجلَّى الشعر من خلال كتابة السطح، شذرات من الواقع؛ واقعٌ مُسترجعٌ بجمالية في القصيدة كما لو كان حلماً.

الإنسان يَرهب الزمن، والزمن يخاف القصيدة

أتذكّر أيضاً "محطّة قطارات مورناو" الغارقة في الظلام، ومن ورائها فضاء موقف سيّارات خاو؛ بدت جدران وزوايا بناء المحطّة السوداء على خلفية الليل الأزرق الرمادي الداكن كما لو أنّها لوحة للرّسام الإيطالي شيريكو. ومن المحطّة ذهبنا مباشرةً إلى مطعم "بايراني" (نسبةً إلى مدينة بايرن الواقعة في إقليم بافاريا) وقلتَ لي ونحن نجلس: "كان أبي يُلزمني في المناسبات القومية بالذهاب إلى 'معهد قرطاج' في تونس باللباس البافاري التقليدي".

قلتُ: "أنا أيضاً كنتُ في تلك السنوات أدرس في معهد قرطاج".

بيد أننا لم نلتق.

وتذكّرنا بشير قوجة مدير المعهد؛ الرجُل دائم العبوس بغليونه الذي لا يفارق فمه؛ تذكّرنا عمارة المعهد الذي صمَّمه المهندس الفرنسي ذائع الصيت جاك مارمي.

قلتُ له: جاؤوا اليوم للمعهد بمدير ريفي أزالَ طلاء المغرى الأصفر الذي تقصَّده مارمي، وطلى هذا المدير الجدران بالجير الأبيض، وصبغَ النوافذ بالدهان الأزرق، وتحوّل المعهد، وهو أحد معالم تونس الكولونيالية، إلى شيء شبيه بالفندق، كما فعل زميلٌ له إذ هدم واجهة القصر الملكي المجاور، لأن الرجل ريفيٌّ أيضاً، وتقدّميٌّ جدّاً ولا يحتمل أيّ ذكر لملوك تونس من البايات الحسينيّين. ومضينا في حنين غنائي. وهذا قطار TGV الخشبي الأبيض، بمقاعده الموبيليا الصفراء، أنشأه الإنكليزي إدوارد بكرينغ في سبعينيات القرن التاسع عشر، ونوارس خليج تونس تتجمّع على حواف بحيرة تونس أوائل الربيع... وتلك الباخرة الإيطالية ببرجها الأبيض ومدخنتها الحمراء والسوداء والبيضاء التي تعبر الخليج كل يوم أربعاء، و"محطّةً المرسى" ذات العمارة العربية الموريسكية، وسعف نخيل شارع المحطّة الذي يهتزّ في ريح الخريف، ومشهد جبل بوقرنين، في الجانب الآخر من الخليج لا يكاد يبيّن في ضباب الأفق بتدرّجاته اللونية، كما هو في لوحات جلال بن عبد الله، وقفص العصفور في النافذة التي تتوسّط اللوحة، وعربات التاكسي "بيجو" الصغيرة البيضاء والحمراء، وقناة "راي أونو" الإيطالية بالأبيض والأسود التي كنّا نراها، وزهور الجهنمية التي تكتظ بها حدائق الضواحي، والتي تدفعها الريح في كلِّ مكان، في باحة المعهد وزوايا محطّة القطار مُعلنةً فصل البرد.

الآن، وقد وصلَتني من جزيرتك القديمة، هذه القصائد، وهي مختارات من آخر أشعارك، عدتُ إلى قصائد تلك السنوات البعيدة، ولكن، زمنُ الشعرِ يقع خارج الزمن، والشعر دائماً آنيٌّ، فبمجرّد أن تقرأ القصيدة حتّى تشعّ في اللحظة الحاضرة.


*

عن زمنية القصيدة هذه، نشر سارتوريوس كتابا بعنوان "الإنسان يَرهب الزمن، والزمنُ يخاف القصيدة"، جاء فيه: "افهموني جيّداً: اللغة اليومية المنطوقة لها أساسها في اللحظة. لغةُ العديد من القصائد لها أيضاً أساسُها الزمني. ولكن القصيدة التي أتحدّث عنها الآن بالتحديد تتميّز بحقيقة أنَّ لغتها يمكن أن تنفصل عن الواقع، وأيضاً عن التسلسل الزمني الخطّي، وتسمح بالتالي لنفسها ببناء واقعها الخاص".

هنا مختارات من قصائد متفرّقة تُقدِّم صورة لكتابته الشعرية، إذ كلُّ شاعرٍ هو عالَمٌ بأسره، عالَمٌ قائم بنفسه لارتباط الكتابة الحديثة بعوالم اللاوعي الغامضة وشديدة الفرادة.


سيلينوت

(إلى نيكولاس دي ستايل الذي كان يسبح ليلاً في بحر سيلينوس)

فظاعةُ الألوان
قادتني حتّى هذا المكان،
إلى هؤلاء الإغريق البحريّين
نحو هذه الكومة العجيبة من الحجارة.

نحو هذه المعابد
المُعرَّضة للسخط الإلهي
منذ كان البحر رصاصياً
وفي هذا الرصاص كنتُ أختفي في المخمل.

كانت الأمواج تمشّط الطحالب الداكنة.
طبقاتٌ مختلفة منذ زمنٍ سحيق
تمتصّه إسفنجة الليل
مثل صندلٍ مثقوب.


■ ■ ■ 
 

أورتيجيا

يومٌ أبيض
أُمسيةٌ بلونِ القرفة.

وهج الحجارة الأخير.
يجب ألّا تغرب الشمس.

يجب ألّا تُعتم الشمس.
لا سعادةَ في خبوها.

فقط تتابع تحرّكات 
القوارب في مرفأ بورتو غراندي،
بحثاً عن ميناء سانح
قبل أن تلتمّ المياه على نفسها.


■ ■ ■


في الريف، ليلاً

لم تكن لدي سهام.
كنت أرسل السهام على الكمثرى الصفراء.

ماذا نفعلُ بالثقوب المُحدثة؟
تدفّقُ عصير؟
ماذا أفعلُ بعينَي؟

البلد مُقطّعٌ ومليء بالأعمال الخبيثة
وبالزيزان الميّتة.

والخفّاش يبغي
رقصةً سريعةً ومُربكة.

تحت الأجنحة يبدو فضياً،
هل ضاع البحر في الأسفل؟


■ ■ ■


تونس 1957

في الألبوم البلاستيكي في الصيف
ها هي صورة باهتة أظهرُ فيها
على جانب، داخل الفراغ،
بين السماء والبحر، وحذوي
خارطةٌ لمدينة تونس، مُلصقة فوق الصورة، 
حيث يختلط كلّ شيء،
سور القرآن، نجمة داود،
شكوى أمّ كلثوم وأغاني
فريد الأطرش.
ابتسامات نساء كئيبات ودرجة الحرارة لا تقلّ
عن 45 درجة في ظلال قلبي. وكثبان قمرت الرملية
أمام المدينة، والطحالب اللاصقة
بصخور البحر،
وأشجار النخيل والنداوة، وشفاه التسبيح.
كانت عيون السمك الطازج تصدم بالشهوة.
ما هو بعيدٌ زيف. والوقت أيضاً زيف.
السماء لونها أزرق. وكلُّ شيء قريبٌ
مثل اللدغة:
نشيش الزيت الذي يغلي، والفطائر
ملفوفة بقطعة جريدة: احذر، إنّها
شديدة الحرارة! ومشهدٌ على الخليج
أردت دائماً أن أكون في الوقت المحدَّد،
في سعادة أبدية بعد ذلك. 


■ ■ ■
 

مدينة الموتى بانتانيكا

يطيرُ مالك الحزين نحو الغابات، ويملأ أجنحته بالروائح.
السماء تمتدّ السماءَ مثلَ جلدٍ رماديٍّ فاتح.

أنا الراعي الذي يَشرخ التين.
الراعي المتغنّي بالخراف الرمادية.

وأكثر أيضاً من القبور المُعتمة،
وبالفراشة الأولى، بنّية اللون وسبيكة.

فوق قمّة الجبل ينتصب مفتوحاً
الكتاب لتحديد طُرق الطيران.


■ ■ ■


سرقسطة

تحت الماء الأسود المتدفّق،
رأيتك يا أريثوز
بشرتُك أكثر بياضاً من جبنة الريكوتا
وصلبة مثل العنب غير الناضج.

ثمّ غطّتك بالأجنحة والقصب.
وأنا أراقبُكَ وراء النبوت البراني،
في نهاية الممرّ الفارغ الطويل.
قريب من البحر دون أن تمتزج بالنبع.

لقد سقط إله النهر، وكلُّ شيء تحت السيطرة
من النوم الصيفي، في ظلٍّ أحلك التوقّعات،
ولكن حيثما يكون الظلام مكتوباً
أبحث عنك يا أريثوز.

في الليل أرى الناس يقفون في المقاهي.
أنا لا أستسلم. هُم يعتقدون أنني مجنونٌ
عندما أصرخ: لترحموا
من أجل قصّة حب نهرين.


■ ■ ■


جواب

أحبُّ أن أهيم بالصيف في الصيف.
أحبُّ أن أهيم ببحرى فى البحر.
أريد إحضار ثلاثة دلافين إلى أريثوز
حتى نصير أربعة نهيم بظهرها الفضي.

ولكن ظهرها لا يُرى في العملات المعدنية.
لا نرى سوى الرأس والرقبة تغمرهما هالة فضيّة.
لقد درس باوند وييتس بالتفصيل
في المتحف الأثري مجموعات العملات الأثرية.

هذه القطعة هي أجمل قطع عملة
العالم القديم، هكذا كتب ييتس إلى أصدقائه.
استنتجوا ما كان قد استنتجه الجميع 
من قبلهم:
باوند اقتنى قطعة أصلية.


■ ■ ■


جزيرة صقلية الفرعية

هنا لا ينمو سوى نبات الكبر وزهور أذن الفار.
عندما تتسلّق الجبل، ترى
من بعيد أكتاف الآلهة الجميلة
(كما كان يسمّي القدماء الجزيرة الرئيسية)
تتوهّج الشمسُ الناضجة في جعبتها ثم تهوي.

بماذا ستخبرنا؟ في وقتٍ لاحقٍ عند الغسق
أجسادٌ مضغوطةٌ بين الحجارة ورذاذ البحر.
أنفسنا تحملنا العبّارة،
إلى مراكز المدن، إلى الساحات المضاءة بالنيون.
حيث نزرع كلمات أذهَلها العطش.

كان الماضي على الدوام حاضراً هنا.
والأرض مستديرةٌ بلا شجرٍ، والأوراقُ صلبة.
والحصى تلعبُ معكَ والقطط غير مبالية.
ماذا كانت تقول الجزيرة الملحقة التي تذكّرتها 
إلى النهاية، الآن في مكانٍ آخر أضيق؟
 

■ ■ ■


الاستيقاظ في أورتيجيا

غسلَ الليلُ المياه.
في الصباح كانت المياه جديدة
على شبكية العين يتحوّل الضوء
رذاذ بحر.
أنظّف الملح من على سطح الطاولة
وأقبّل عيون السحالي.
أقطع الخبز.
ينهض النهار صافياً بشكل مذهل

في وقت لاحق، يأخذ البحر منك
قطع النقود
وينقش فوق كل منها
اسم حورية بحر

لأجل السعادة المديدة
أنّك في الحياة.


■ ■ ■


على رصيف ميدان بريكورسور

البحرُ أمامنا على مستوى النظر.
قوارب صيّادين في ارتفاع خفيف للبحر،
غداً سيكون هناك سردين وصيدٌ بحري
وسمك أبو سيف العظيم.
هو فحسب، سيكون في السوق بقرنفلٍ في عينيه،
والفم محشواً بالأترج، والخياشيم بالريحان.
وسيقطعه البائع آه!
بسكّينه العريض سيقطع سمك سيّاف البحر
حتّى لن يبقى منه سوى الرأس والسيف
مع الخطّاف الملوّث بالدم.
تذكّرت في تلك اللحظة الشهب الحمراء
التي أطلقت في سماء الأمس،
أثناء حفل الزفاف في سان جيوفانيلو،
والتي كانت تسقط في البحر، 
مُحدثةُ نشيشاً مثل نشيش قلي السمك،
مثل سمك أبو سيف في مطبخنا
ابتداءً من يوم الغد.

غداً وخلال الاحتفالات وانتشار روائح المرّ والليمون،
سنذكر مدينة ميتيليني، قبالة ساحل آسيا الصغرى،
عاصمة ليسبوس القديمة، وهل صحيح ما قاله شيشرون،
من أن تمثالاً لصافو من الرخام السماقي نصب في قاعة بلدية سيراكيوز؟ 
وهذا غير مؤكّد. وأجزاء التمثال
لا يمكن إكمالها؛ والأصوات تصلنا من القوارب المحطمة.


* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام



بطاقة

Joachim Sartorius شاعر ألماني من مواليد مدينة فورت عام 1946. قضى طفولته في تونس. حصل على إجازة في القانون، وبدأ حياته المهنية دبلوماسياً. عمل مديراً لـ"معهد غوته الألماني". نُقلت أعماله إلى لغات عدّة، من بينها العربية التي اقترب من بلدانها زائراً ومستكشفاً. من أعماله الشعرية: "الإسكندرية سراب" (2008)، و"فندق الغرباء" (2010)، و"جزر الأمراء" (2013/ الغلاف)، و"ودعونا الغريب إلينا" (2019).

 

المساهمون