وِليَم غاديس: أحسدُ الشابّ المُغامِر الذي كتب "الاعترافات"

وِليَم غاديس: أحسدُ الشابّ المُغامِر الذي كتب "الاعترافات"

04 يوليو 2023
وِليَم غاديس (في الوسط) خلال أمسية حول أدبه في "جامعة جنوب كاليفورنيا"، مطلع التسعينيات
+ الخط -

نادرةٌ جداً هي اللقاءات الصحافية التي أجراها وِليَم غاديس في حياته. "العربي الجديد" تترجم لقاء أجراه معه الناقد زولتان أبادي- ناغي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1986 ببودابست، ونُشر لاحقاً في مجلة "ذا باريس ريفيو"، عدد شتاء 1987. يستعمل غاديس في إجاباته لغة مُغرقة في أميركيّتها أو عاميتها، ما يعكس خصوصية استعماله للغة ككاتب وما يشكّل أيضاً تحدياً للترجمة. 


■ ذاع صيتُك على مدار سنوات بأنك تتجنّب اللقاءات الصحافية، خصوصاً تلك التي تُعنى بأعمالك الأدبية، دعْني أسألْك، لماذا قرّرتَ أن تُجري هذا اللقاء بالتحديد؟

- أعتقد لأنّي أملكُ بعض الوَهم حول قدرتي على دحض هذا الأمر نهائيّاً. في الماضي، كنتُ لا أزال قادراً على المقاومة بعضَ الشيء، بعدما لاحظتُ تلك النزعة التي تضع الكاتب في صميم عمَله، ويعود هذا لأكثر من ثلاثين عاماً، عندما أجريتُ لقاءً عن كتابي "الاعترافات". هناك قناعة تامّة بأنّ على النصّ أن يعرّف ذاته، ولأني واجهتُ أسئلةً يُرافقها الغموض المتعمَّد، ولا نيّة لي في إعطاء التفسيرات ضمن هذا السياق. وفي النهاية، الشعور بالتهديد من شخص يطرح الأسئلة دون أن يكون مُطّلعاً على النصّ ذاته: هل تعمل وفق مخطّط ثابت كلّ يوم؟ على أيّ جانب من الورقة تكتب؟ هذا النوع من اللقاءات السطحيّة، وفكرة تقديم المشاهير خلال خمس دقائق، يحوّل الفنّان الخلّاق إلى فنّان استعراضي، وهو ما لا يبدو لي كذلك هنا في لقائنا هذا.


■ أشكرك على هذه الثّقة. 

- لذا، كلّي أملٌ بأن أتمكَّن من تفنيد بعض تلك الادّعاءات؛ فمن خلال مقابلةٍ بوسعي أن أدعو الناس للعودة إليها حين أُهدَّد بإجراء مقابلة أُخرى، وبذلك لن أكون بحاجة للخوض فيها من جديد.

فات الأوان لأكون أياً من الأشياء التي لا أرغب أن أكونها


■ قلت إنّ هناك قناعة تامّة تقضي بأنّ على النصِّ الأدبي أن يعرّف ذاته، أليس صعباً للكاتب التمسُّك بهذا المبدأ على الدوام؟ بمعنى آخر، ألم تشعر يوماً بالانزعاج من التفسيرات الخاطئة التي لاحقت أعمالك؟ 

- وكيف لا ينزعج الكاتب؟ إلّا في حالة أنك تكتب "ما يريدون" - أعني، قالباً ما، من أجل المال فقط - أليس هذا هو تاريخنا، منذ هرمان ميلفيل؟ إنه عيبٌ مناطقيٌّ كما قال الكاتب المسرحي


■ والآن بعدما قرّرت الخروج من عزلتك – وقبل أن تعود لها مجدّداً - ربّما لا تكون راضياً عن الصورة المتداولة بخصوص حياتك الخاصة وشخصيتك، والآراء التي تودّ تصحيحها؟

- كنتُ آمل أن يوضِّح هذا اللقاء بعض هذه الأمور- أعني ما يُمكن تصحيحُه، لأنّ تصحيح "صورة" أحد ما، هو فعلٌ غير مُجدٍ بقدر ما هو عرَضي، هذا في حال كان تصحيح صورتك هو كلّ ما تُريده - وهذا نادرٌ حدوثُه هذه الأيام، كما قال هنري كسنجر، على سبيل المثال، "سترغب في تشويه صُورك من أجل الظهور بمظهر جيد". اليوم، أعودُ نحو كتابي "الاعترافات" عندما سأل وايت [الشخصية الرئيسية في الرواية - المترجم]، ماذا يُريد الناس من كاتب لم يفهموا كتابتَه، فمنَ المحتمل أنّه كان يُحاول بذلك استخلاص أفكاره عن "الحياة والشخصية والآراء"، التي تحدّثتَ عنها، وما الفنّان سوى تلك الثُّمالة الباقية في أعماله: كنتُ قد قلتُ هذا السَّطر على لسان وايت قبل ثلاثين عاماً، وبقدر ما أشعر بالقلق تجاه هذا الأمر، أعتقدُ أنّه ما زال صائباً حتى الآن. 

الصورة
الاعترافات - القسم الثقافي
كان كتابي الأول "الاعترافات"، نصاً صغيراً وفاقداً للتوجيه في بداية الأمر

■ ومن هنا نأتي نحو سؤال آخر لا بدّ من طرحه، كنتَ قد تلقّيت تقديراً من منح وجوائز متنوّعة، بما في ذلك "جائزة زمالة ماك آرثر" المرموقة. ما شعورك حيال ذلك؟ وكيف غيّر هذا التقدير مسيرتك؟ 

- حسناً، أعتقد أنّني لم أكُن لأتفاجأ كثيراً، لو حصلتُ على "جائزة نوبل للآداب" عندما صدرت "الاعترافات". أعني هذا هو الافتتان الكبير للشباب، أو يُخيَّل لنا أنّ هذه هي الجنة، لذا كانت أصداء الكتاب واقعية ومتواضعة للغاية، وعندما أتت يد العون في نهاية المطاف، أو التقدير كما قلت، "جائزة مؤسسة روكفلر"، و"زمالة غوغنهايم"، و"المنحة الوطنية للفنون"، كلّها جهاتٌ مدّت يد العون لي في أحلكِ الأوقات. وبفضل حثِّها واصلتُ العمل على كتابي الثاني، وبدأتُ بالكتاب الثالث، ولولا وجودُها لفكّرتُ في التخلّي عن هذا العمل اللعين. 

عند الكتابة لا أستطيع العمل دون أن أضع مشكلة لنفسي أطمح لحلّها

والربّ وحده يعلم ما الذي كنت سأفعله أيضاً، لقد فات الأوان لأكون أياً من الأشياء التي لا أرغب أن أكونها. هناك حديث مستمرٌّ حول اعتبارها تغذّياً على المال العام، وحول ازدراء هذه المنح لأنّك لم تحصل على واحدة من قبل. أعني أنّنا جميعاً نرغب في أن نحظى بنزاهة صاموئيل بتلر الخالصة، الذي لم يكتب بهدف النشر، ولم ينشر كلّ شيء كان قد كتبه (كتابه "طريق كلّ جسد" كان قد نُشر بعد وفاته)، وهذا جزء من الرفاه الذي تؤمّنه "زمالة ماك آرثر". ومنذ ذلك الوقت لا نيّة لي في استعجال النشر.

الصورة
المنزل القوطي - القسم الثقافي
غلاف "المنزل القوطي"

■ هل يُمكنك قول شيء حول نشأة رواياتك؟ هل يُمكنك إعادة بلورة الدوافع التي جعلتك تبدأ بروايتك "الاعترافات"؟ 

- في البداية، أعتقد، كان هناك نوعٌ من الثقة العارمة لكون المرء شابّاً، وبإمكانه فعلُ أيّ شيء، "فكلُّ ما تمتطيه الشبيبة ويقوده الجنون تغمره الشجاعة الدائمة"، كما قيل في مسرحية "كما تشاء" لشكسبير. لقد كان كتابي الأول "الاعترافات"، نصاً صغيراً وفاقداً للتوجيه في البداية، تستند قصته إلى قصة "فاوست"، بعدها بدأتُ أحوّر الأمور، وأصبح موضوع التحوير - لا أستطيع أن أقول إنه هوس - لكنّه أصبح مركز كلّ شيء أفكّر فيه وأراه. وتوسّع هذا الكتاب، من الشخصية المركزية المحوّرة، نحو التحوير الكلّي، نحو تحريف وتقليل ثمن القِيَم في كلّ مكان. وبالنظر إليها الآن مع أخطائها المختلفة، أظنّ أنّ الاسترسال هو التهمة الرئيسة التي تُدين النص. أتذكّر كليف بيل عندما أعاد النظر في كتابه الصغير الجميل، "الفنّ"، بعد خمسة وثلاثين عاماً من نشره في عام 1913، وأقرّ بعيوبه، أجد هذا فعلاً فيه ثقة عالية واندفاع وتفاؤل كبير- لم أُتّهم بذلك قطّ! - لكنّني ما زلتُ أشعر، كما قال، "ببعض من الحسد من الشابّ المُغامر الذي كتبه".


■ ما الذي جعلك تكتب روايتك "JR"؟

- على الرغم من أننّي كان يجبُ أن أعرِف من خلال كتابي "الاعترافات"، أنّ العالَم لا ينتظر رسالتي متلهّفاً، التي كان يعرفها حقّ المعرفة، حيث كان سعيداً بالعيش مع كلّ هذه القيم الخاطئة، ولأنّي كنتُ دائماً مفتوناً بتمثيلية ذلك - ما يُسمّى بالسوق الحرّة، أو ما يُسمّى بنظام المشاريع الحرّة، وتصوّر سوق الأسهم المالية بوصفه "رأسمالية الشعب"، حيث إنّك "تمتلك جزءاً من الشركة"، وما إلى ذلك. إنّ كلّ هذا صحيح، فأنت تملك جزءاً من شركة، وأنت تملك أسهُماً فيها، لكن إذا كنتَ تمتلك مئة سهم من أصل ستّة أو ستين أو ستمئة مليون، فلن تؤثّر كثيراً على الأمور، وأيضاً حقيقة أنّ الناس باتوا يشترون الضمانات، والكلمة مثيرة للسخرية في السياق هنا، ليس لأنهم متحمّسون لشراء المنتَج – في الأغلب أنتَ لا تعلم ماذا تنتج الشركة - بل ببساطة من أجل الربح، فأنت تشتري الأسهم حين تكون جيّدة، وعندما تتلف أنت ببساطة تبيعها، وما قد يحصل للشركة من أضرار ليس من شأنك، بجميع النواحي، كنت قد فكّرت في طفولية كلّ هذا الفعل. لأنّ "JR" ذاته، والذي يبلغ من العمر أحد عشر عاماً، والذي كان جشعه الطيّب هو محفّزُه الأساسي. بعبارة أُخرى، كان "JR" بمثابة نَقدٍ لنظام المؤسّسة الحرّة هذا، الذي خرج عن نطاق السيطرة. وبالنظر من حولنا الآن، مع عجز فيدرالي قيمتُه 2 تريليون دولار، ومليارات من الديون الخاصة، حيث باتت المصارف والمزارع والصناعات الأساسية في ورطة خطيرة، يبدو أنّ "JR" كانت نبوءة إلى حدٍّ ما.
 

الصورة
غلاف جي آر - القسم الثقافي

■ وكتابك الثالث، "المنزل القوطي"؟

- حسناً، هذا مختلف كُلّياً، أنا لا أستطيع العمل دون أن أضع مشكلة لنفسي أطمح لحلّها، في كتابي الثالث "المنزل القوطي"، كانت المشكلة الأساسية في الشكل والتقنيات الأدبية، أردتُ أن أكتب كتاباً صغيراً، كتاباً يراقب وحدات الزمن ومفهومه، والمكان وكلّ شيء، بالرغم من أنّه يتوسّع نحو مفهومٍ العالم ككلّ، وتدور أحداث هذا الكتاب في منزل في الريف، مع عدد ضئيل من الشخصيات، في مدّة زمنية قصيرة، وكان هذا بمثابة تدريب من حيث التقنية والشكل الأدبي، وأيضاً أردت أن أستخدم كلّ تلك الكليشهات الأدبية لإحيائها وجعلها ناجعة، حيث تجد علاقة الرجل المسنّ بالمرأة الشابّة، وانهيار الزواج، والزنا النفعي، و"الغرفة المُغلقة"، و"الغريب الغامض"، وما إلى ذلك.

 

المساهمون