وقفة مع فارح مَسَرْحي

14 يونيو 2023
فارح مَسَرْحي
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة حول انشغالاتها وجديد إنتاجها وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "أهلُ الفلسفة مسؤولون عن صورتها في بلداننا؛ بسبب المواضيع التي لا يشعر القارئ أنّها تعنيه"، يقول الباحث الجزائري لـ"العربي الجديد".



■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- ككلّ المهتمّين بالشأن الثقافي، تشغلني دوماً هموم الفكر والوطن، كما عنون المرحوم حسن حنفي أحدَ كتبه. هناك انشغالاتٌ تتعلّق بي كأستاذ في الجامعة، ونحن مع نهاية العام الدراسي وما فيه من امتحانات ومناقشات، وهناك انشغالات المواطن البسيط في الجزائر، والتي أتقاسمها مع كلّ الجزائريّين، وهناك هموم الفكر والثقافة من منطلَق أنّ إحدى وظائف المشتغلين بالفلسفة هي طرح الأسئلة، ونحن نعيش في زمنٍ أوضاعُ الفكر والثقافة في بلداننا تطرح أسئلةً كثيرة وحرجة. نحن محاطون بأسئلة الماضي وأسئلة المستقبل، وبضغوطات الراهن الذي ليس كما نحبّ أن يكون. تبقى مهمّتنا الرئيسية هي نقد ما هو كائن والبحث عن سبُل تحقيق ما ينبغي أن يكون، محلّياً وإقليمياً وعالمياً أو إنسانياً.


■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟

- آخر عمل صدر لي هو كتابٌ نُشر العام الماضي ضمن سلسلةٍ أطلقَتها منشورات "الوطن اليوم" للتعريف بأعلام الفكر في الجزائر، عنوانه "محمّد أركون: فيلسوف بين الشرق والغرب"؛ وهو محاولةٌ لتعريف القارئ العامّ غير المتخصّص بهذه الشخصية الفكرية الجزائرية التي كثيراً ما أثارت الجدل في الساحة العربية خصوصاً. نحن نعلم ما يميّز المدونة النصّية التي تركها أركون من جدّة وتعقّد وجرأة وثراء، وهي مدوّنة تتّسم بالطابع النقدي في مجملها، لذلك ركّزتُ في الكتاب، بعد التعريف به، على نقده للعقل الإسلامي ونقده للعقل الغربي، خاصّةً المنتَج الاستشراقي.

مهمّتنا نقدُ ما هو كائن والسعي لتحقيق ما ينبغي أن يكون

بالنسبة إلى العمل المقبل، قد يكون حول موضوع الدين والتديّن والعلمانية في السياقات الإسلامية. وقد سبق أن نشرتُ مقالات في هذا الموضوع، كما قدّمتُ محاضرات وحوارات حوله. لذلك، سأحاول الاشتغال على هذه الأرضية وتطويرها لتكون في شكل كتاب يُمكنه أن يطرَح للنقاش إشكاليات أعتقد أنها بحاجة لمُدارَسة وتفكير جادّ، بالنظر إلى الخلط الكبير بين الدين والتديّن والخطاب الديني، والخلط في التعامل بين النصوص المؤسِّسة والنصوص الثواني أو الشارحة، كما أنّ هناك عداءً كبيراً للعلمانية على المستوى النظري أو على مستوى الخطابات، وممارَسةً كبيرة لها على مستوى الواقع.


■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟

- هذا السؤال يُذكّرني بقول الشاعر: "وما السعادة في الدنيا سوى شبح/ يُرجى فإنْ صار جسماً ملَّهُ البشرُ". الإنسان، مهما حقّق من طموحاته وأهدافه، يبقى مشرئبّاً نحو أهداف أُخرى. ومع ذلك، علينا أن ننظر دوماً إلى نصف الكأس المملوء. إلى الآن نشرتُ مجموعة من الكتب (تسعة كتب فردية وسبعة جماعية)، وعدّة مقالات وحوارات، وأنا راضٍ إلى حدّ كبير عمّا أنتجته، مع أنّ الحُكم على الإنتاج الفكري في النهاية مرتبطٌ بآراء القرّاء وكيفية استقبالهم للكِتاب. فالمؤلّف ينتهي دوره حين يدفع العمل إلى الناشر، فيصبح النصُّ مسؤولاً عن الدفاع عن نفسه أمام القرّاء والنقّاد. أتابِع دوماً ما يكتبه الزملاء والقرّاء عموماً حول كتاباتي، وأستفيد من تلك القراءات كثيراً، وأسعى إلى نشر المزيد من الدراسات والبحوث حول المواضيع التي أراها جديرةً بالنقاش.


■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- أعتقد أنّ المسار الذي مررتُ به هو المناسب لي؛ فقد درست الرياضيات في الثانوية وأخفقتُ في الباكالوريا، ثمّ حصلتُ، في ما بعد، على باكالوريا آداب كمترشّح حُرّ، وسجّلتُ لدراسة اللغة الإسبانية في الجامعة، ولكنّهم أغلقوا المعهد بسبب نقص التأطير، فجرى تحويلي ــ بطلب منّي ــ إلى قسم الفلسفة في "جامعة قسنطينة"، فكأنّي كنتُ أهرب من الفلسفة وهي تحاصرني، وقد مرّ ربع قرن وزيادة على انتمائي إلى مجال الفلسفة، وأنا مرتاح جدّاً فيه، وأحاول بما أستطيع، سواء في دروسي أو محاضراتي خاصّةً خارج الجامعة، تغيير النظرة السلبية المستشرية في المجتمع حول الفلسفة.

أتمنى أن يُسمع من في القبو مثلما يُسمع من هُم في الأبراج

وقد خصّصتُ كتاباً للحديث عن المهام الجديدة للمثقَّف في السياقات العربية الإسلامية، وركّزتُ فيه، ضمن هذه المهام، على ضرورة التخصُّص وتقريب الخطاب الفلسفي للغة العامّة؛ سواء تعلّق الأمر بالمصطلحات أو المواضيع؛ فجزء كبير من أسباب صورة الفلسفة في العالم العربي يتحمّله أهلُها، من خلال لغتهم الموغلة في التجريد، وتركيزهم على مواضيع لا يشعر القارئ أو المواطن أنّها تعنيه.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- لا أظنّ أنّ العالَم سيتغيّر نحو ما نريده كأشخاص بسطاء ننتمي إلى كيانات ضعيفة ومهمَّشة من كلّ النواحي. العالَم، منذ وُجد، وهو يذهب إلى الوجهة التي يختارها الأقوياء سياسياً وعسكرياً ومادياً، والتاريخُ، كما يُقال، يكتبه المنتصرون. أمّا أصوات المهزومين فتذهب هباءً، وصوتُ الموجود في القمّة ليس كصوت الموجود في القبو. لذلك، فلا مجال لأحلام البسطاء في عالَم الصراع والتنافس والبقاء للأقوى. نحن لا نملك إلّا الدعاء والمقاوَمة بأدواتنا البسيطة للحفاظ على ما يسمح بحياة بسيطة. ومع ذلك، يبقى الحُلم مشروعاً، فنحن نحلم أن يسود الأمن والرخاء في العالَم، وأن تُسمَع أصوات من في القبو، مثلما تُسمع أصوات من هُم في الأبراج.


■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟ 

- المفكّر والوزير الجزائري السابق مولود قاسم نايت بلقاسم، رحمه الله. هذا المفكّر أحببته منذ صغري، وكانت كتبُه أوّلَ ما قرأت. يعجبني كلامه الحادّ وطريقة تفكيره المختلفة عن الآخرين، جرأتُه ووضوح أهدافه، وطنيّتُه وإنسانيته وقوّة شخصيته، وحبُّه الكبير للجزائر تاريخاً وجغرافيا وفكراً وثقافةً، ودفاعُه المستميت عن الإنية الجزائرية عبر التاريخ. 


■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- يعجبني كِتابا "فجر العِلم الحديث: الإسلام وأوروبا والصين" لمؤرّخ العِلم الأميركي توبي هف، و"بنية الثورات العِلمية" للفيزيائي الأميركي توماس كوهن. الكتاب الأوّل يكشف لنا أسباب أفول العِلم في الحضارة الإسلامية أو لماذا لم نستطع الاستمرار في التطوُّر بعد القرون الوسطى. أمّا الثاني، فيُخبرنا كيف تظهر النظريات العِلمية والأفكار الجديدة التي تستطيع تجاوُز القديم وتسمح بالانطلاق الواعي والمفيد، من خلال الأزمة المولِّدة للثورة التي تُنتج نظرية جديدة يجري من خلالها تغيير الباراديغم السائد والتحوُّل إلى باراديغم أو منظومة توجيه جديدة.


■ ماذا تقرأ الآن؟

- أقرأ كتاب "الخطاب الفكري في الجزائر بين النقد والتأسيس" للباحث الزواوي بغورة؛ أستاذ الفلسفة في "جامعة الكويت".


■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- لستُ مولَعاً كثيراً بسماع الموسيقى والأغاني. ومع ذلك، فأنا أُحبّ، في بعض الأحيان، الاستماع إلى الأغاني التراثية بالعربية والأمازيغية.



بطاقة

باحث وأكاديمي جزائري من مواليد تكوت في باتنة شرقي الجزائر عام 1975. يعمل أستاذاً في قسم الفلسفة بـ"جامعة باتنة" منذ 2004. ومن مؤلّفاته: "الحداثة في فكر محمد أركون" (2006)، و"المرجعية الفكرية لمشروع أركون الحداثي" (2015)، و"التراث والهوية"، و"الفلسفة في الجزائر"، و"المواطنة والأنسنة" (2017)، و"المهام الجديدة للمثقّف في السياقات العربية الإسلامية" (2020)، و"عبد الرحمن بوقاف: فيلسوف النقد والتنوير في الجزائر"، و"مولود قاسم نايت بلقاسم: فيلسوف الإنية الجزائرية" (2022).

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون