تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "الممارسة الإبداعية هي نوع من الألم الذي لا يمكن الخلاص منه" يقول الكاتب العراقي في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- في مقال للسيميولوجي الفرنسيّ رولان بارت، يتحدثُ فيه عن العطلة التي يحصل عليها الموظفون والعمّال كلّ عام، هو يسميها الميزة الاجتماعية المُبهجة، لأنَّهم يُخَطِّطون قبل ذلك لها لتوفير أفضل وقت للمتعة، بعيدًا عن الروتين اليوميِّ خلال العام كله، وينسون خلالها كلّ ما يتعلَّق بالعمل، يخلعون "البذلة الزرقاء" وربطات العنق، يستبدلون الأحذية التي يجب أن تكون لامعة بأخرى رياضيَّة أو "صنادل"، يهملون لبعض الوقت الفقرة الصباحية (حلاقة اللحية) ويسهرون أيضًا، هذا الشيء الذي لا يتحقَّق عندما يفكِّر المرء بالاستيقاظ عند الساعة السادسة صباحًا. العطلة احتفال يرافقه الاختفاء أو النسيان، ولكنَّ الكاتب في عطلته لا ينسى، إنه يحمل معه كتابًا أو أكثر ليقرأ حتى عندما يسافر إلى آخر العالم، يحمل حاسوبه لإنجاز مشاريعه، ويفكّر أيضًا. ما أريد قوله إن الكاتب لا عطلة له، فهو منشغل دائمًا، أنا هكذا، حتى في وقت عملي الوظيفي منشغل بما أكتب، منشغل حتى في الأحلام أحيانًا.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك المقبل؟
- الكاتب يخاف من الفراغ الذي يعقب إنجاز العمل، يدخل فجأة في دور عالِمِ الآثار الذي اكتشف موضعًا وانتهى من هتك أسراره كلِّها، حينها لا تجد عَينه موضعًا آمنًا إلّا بعد الحصول على مكان آخر للتنقيب، هذه هي الطريقة التي تجعله في مساحة تخلو من القلق، مثل الصيّاد الذي يبتسم عندما يُدرك أن ذخيرته كافية لتمنحه صيدًا جديدًا. بعد آخر رواية لي "خيوط الزعفران" والتي صدرت خريف 2020، بدأت مباشرة بالعمل على بعض المشاريع، انتهيت من بعضها فعلًا، وآمل أن يصدر لي أكثر من كتاب في القصة والرواية وأدب الفتيان خلال العام المقبل.
■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟
- لا يمكن لنا ابتداع طريقةٍ للحصول على هذا الشعور، ولا يمكن لنا أن نراهن على عملٍ مهما حصل على الانتشار والقبول والحفاوة من القرّاء والنقّاد، لكي نطلق هذه الكلمة الخطيرة "الرضا". إنها شيء يشبه الموت، ما يحصل أننا نولد ونموت، وما بينهما رحلة تطول أو تقصر، لكنَّ الرضا لن يحصل دائمًا في الكتابة، الرضا هي نقطة نسعى لها، وَهْميّة لكنها ضرورية لكي نستمر، هذا كل شيء.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
- العالم مليء بالذرائع، هي أفكار مشبوهة لكنَّنا نجد أنفسنا في لحظةٍ ما مقتنعين بنزاهتها. حسنًا لست منحازًا لتلك التصريحات النارية، الأشياء المبالغ بها بخصوص الكتابة، كأن يقول شخص ما إنه لا يتخيَّل نفسه خارج هذا النشاط، وإن الممارسة الإبداعية هي نوع من الألم الذي لا يمكن الخلاص منه، رغم ذلك أجد نفسي منقادًا لهذا السحر، أن أخلق عوالم موازية لعالمي الواقعي، لكنِّي لا أعتقد أنّي سأختفي لو لم أكن كاتبًا، سأجد نفسي ربَّما في موضعٍ آخر، أن أكون صاحب مطعم مثلًا، أحبُّ الطبخ، إنه شيء مثير حقًا، الطعم والروائح والألوان وأيضًا اختراق الوصفات وتخليق أشياء جديدة، عمل فيه مساحة واسعة للتجريب والإبداع.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- يبدو لي أن هذا السؤال تهكُّميٌّ أكثر من كونِه محاولة للبحث عن إجابة، فالعالم غارق في بحيرةٍ راكدةٍ تَتَحلَّل فيها أحلام البشر، تخيَّل أن الحضارة بكل منجزاتها، الفلسفة والأدب، وكل المعارف التي تحقَّقت كتتويجٍ لحلم الإنسان بالسعادة، تنسحب شيئًا فشيئًا إلى تلك البحيرة، لست متشائمًا، لكنَّ أحلامنا تتراجع، نبدو في بعض الأحيان كما لو أننا ندور على غير هدىً في سوقٍ للأشياء الضائعة، على الرغم من ذلك، هناك تغييرات، حتى هذه التغييرات لا نعرف إلى أين ستقودنا، إلى السعادة! وأي نوع من السعادة، أم إلى التيه؟
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- يثيرني الجاحظ، ويشكّل لي تهديدًا دائمًا، أحيانًا أكتب نصًا أعتقد أنه جيِّد ويستحق أن أضع نفسي في مساحةٍ ضيِّقةٍ من الزهو، لكنَّ الجاحظ يفسدُ كلَّ شيء، يثيرني وأتمنى بالفعل أن أكون قريبًا منه، وأنا قريبٌ بالطبع، أقرأُ الجاحظ دائمًا، على الرغم من أنه يهدِّد مساحة الزهو التي أحصل عليها أحيانًا، فهو شخصيّة لها ثقافة واسعة، قدرة على التهكُّم بعمق، نزعته العقلية، إخلاصه للأدب والفكر، مكانته العلمية في النقد، وتنوُّع أساليبه في التأليف.
■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- أعود دائمًا لكتاب "ألف ليلة وليلة"، إنه درس كبير في السرد، متنُه مفتوح على قراءات لا تنتهي، يشبه الينبوع الذي لا أتخيل أنه سوف ينضب. هو كتاب كل وقت، مزيج من المتعة والفكر، الواقع والخيال، تختبئ في حكاياته الحكمة والجرأة. أمَّا الأصدقاء فكثيرون، لقد تبعثروا من رمانة الحياة، كل حبة في قارة، أحبهم، ولقد حصل أن التقيتُ بعضهم، فشعرت أنّي فارقتهم قبل يوم أو أقل، على الرغم من السنوات والمسافات.
■ ماذا تقرأ الآن؟
- هنالك كتبٌ ليست لجولة عابرة، أو البحث عن معلومات، بل هي مساحة يمارس القارئ في داخلها التفكير، نصوص استفزازية، من النوع الذي نرتبط معها بعلاقة، خيط قوي يسحبنا دائمًا إليها، نقرأ ونعيد القراءة لمرات عديدة "نقد العقل المحض" لـ إيمانويل كانط كتاب من أكثر المؤلفات تأثيرًا في تاريخ الفلسفة، يتناول فيه الفيلسوف الألماني الميتافيزيقا ونظرية المعرفة. قريب مني دائمًا، بالإضافة لكتب أخرى بالطبع.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- أحبُّ سماع أساليب لحنية متنوّعة، عندما كنتُ في عمر المراهقة، أحببتُ فريد الأطرش، واللون الجنوبيّ العراقيّ، ثم بدأت أسمع أشياء أخرى، أقترح عليكم مثلًا الشيخ إمام في أغنية "البحر بيضحك ليه".
بطاقة
كاتب عراقي من مواليد بغداد عام 1965، يقيم في بروكسل منذ 2002. يكتب الرواية والقصة القصيرة والشعر، وينشر في الصحافة قراءاته للأعمال الأدبية. صدرت له أربع روايات، هي: "قلب اللقلق" (2011)، و"صائد الجثث" (2014)، و"غيوم شمالية شرقية" (2019)، و"خيوط الزعفران" (2020). كما صدرت له ثلاث مجموعات قصصية: "ماكنة كبيرة تدهس المارّة" (2017)، و"فرقة العازفين الحزانى" (2018)، و"رومانتيكا" (2019)،. شارك بأنطولوجيات سردية، وبلغات مختلفة، وتُرجمت نصوصه إلى الإنكليزية، والفرنسية، والهولندية، والإسبانية.