وقفة مع جهاد الرنتيسي

23 مايو 2022
جهاد الرنتيسي (العربي الجديد)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة حول انشغالاتها الإبداعية وجديدها وما تودّ مشاطرته مع قرّائها.  "يكفي مقدار القهر الذي لحق بشعوبنا ليولد الرغبة في تفكيكه وإعادة بنائه على أسس مختلفة تتيح العيش بكرامة"، يقول الكاتب الأردني في حديثه لـ"العربي الجديد".


ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
أمتلك فائضاً لا بأس به من الوقت للقراءة والتأمّل، لكنه لا يُرضي شغفي بالاثنين: هناك الكثير من الكتب التي تنتظر، تصاحبها حاجة للتوقّف مطوّلاً عند الأفكار والجماليات، وفي الذاكرة تفاصيل صغيرة لا تقلّ إلحاحاً.
أحاول الهروب من ثرثرة المقاهي، وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي التي تستبيح الكائن، تستهلك وقته وتركيزه رغم فقدانها القدرة على إثارة الدهشة. لا يخلو الأمر من عون الخيال الذي يقتحم اللحظة ليخرج الوقت من نمطيته، ويتيح عالماً أجمل.
تفاجئني الالتزامات اليومية العابرة لتعيد تسطيح الأشياء، وتعيق بلْورة فكرة لم تكتمل، وأُخفق في الالتفاف عليها. أظنّنا بحاجةٍ إلى أكثر من عمر لإرواء شغف المعرفة، ومجاراة رغباتٍ بعيش حيوات لم نعشها، تومض اللحظة في الذاكرة بين الحين والآخر، لتضعنا أمام شعور بعدم التمادي فيها، نتجاهل هذه الحقيقة بقصدٍ أو بغير قصد، ربما لتجنّب الحسرات، أو بفعل عبث الوصول إلى القناعة بما عشناه.


ما هو آخر عمل صدر لك؟ وما هو عملك القادم؟
أعمل منذ سنوات على رباعية روائية حول تجربة فلسطينيّي الكويت، مدفوعاً باعتقاد أن الحياة التي عاشوها في تلك البلاد حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي لم تأخذ حقّها في الكتابة، وظلّت الصورة التي رسمها الإعلام على مدى العقود الماضية احتفاليةً، بعيدة عن الواقع، تطغى عليها المجاملة، ولا تخلو من استهلاكية وبهرجة لها أسبابها المرتبطة بالوعي وضيق الأفق، ممّا أثّر على محاولات التوثيق التي قام بها البعض. في معظم هذا التوثيق اقتصر التناول الإبداعي للوجود الفلسطيني هناك على هوامش الهموم المعيشية، ممّا حال دون سبر أغوار حيوات الناس، وأبقاها معلّقة في الهواء، بعيداً عن سياقاتها.
امتدّ أثر ذلك الوجود إلى مجمل واقع الفلسطينيين في الوطن والشتات، لكنّه ظلّ مهمّشاً في المكان، استقرّت سِمته في منتصف المسافة بين "اللاجئين" و"الجاليات"، ولا يوجد تعريف دقيق له بعد عقود من الهجرة الواسعة متعدّدة الأسباب، التي أعقبت الدخول العراقي إلى الكويت عام 1990؛ اكتنف الغموضُ الكثير من جوانبه وظروفه، ممّا اقتضى القيام بجهد أوسع في البحث، والتدقيق في تفاصيل غائبة، أو مغيّبة، للإجابة عن الأسئلة العالقة، قبل الشروع في الكتابة.
تفسّر تجربة الفلسطينيين في الكويت، التي أتيح لي الإطلال على بعضها، تفاصيل غير مفهومة في التاريخ الفلسطيني المعاصر، جرى التواطؤ على طمسها، لذلك لا يمكن التعامل مع سنوات الوجود هناك باعتبارها حالة عابرة، ويتطلّب التدقيق فيها النظر إلى الغرفة المعتمة من عدّة نوافذ، والبحث عما وراء الظواهر.
من هذه الرباعية صدرت رواية "بقايا رغوة" في نهايات العام الماضي، وهي الجزء الأول منها، وأضع اللمسات الأخيرة على الجزء الثاني منها، الذي يحمل عنوان "خبايا الرماد"، والمتوقّع صدوره بعد أشهر.

لن أجد حياة أفضل من الاشتباك مع الصهيونية كظاهرة عنصرية


هل أنت راض عن إنتاجك؟ ولماذا؟
الرضا غاية يصعب إدراكها. دائماً تطمح للأفضل، تتّجه نحو التجريب والتمرّد على النمط لتأتي بما هو مختلف، تنتابك نشوة شقّ دروب جديدة وأنت توغل في المغامرة، وقد يكون ذلك سبباً في بقائك مسكوناً بالشكّ.
لم تأتِ المغامرة عند التفكير في البدء بكتابة الرباعية عبثاً؛ الكتابة عن الفلسطينيين تعني أنك تتعامل مع كائنات متشظّية، تعيشُ أكثر من حياة. تناوُل تجربة الفلسطينيين الذين عاشوا في الكويت يعني أنك ذاهبٌ إلى أرضٍ بِكر، إلى البقاء على تماسٍ مع المسكوت عنه، يُملي عليك ذلك البحث عن تكنيك مختلف، لغة مختلفة، حيوية الحركة بين الأزمنة والأمكنة، وإيجاد القارئ القادر على التركيز عند ولوجه إلى عوالمك.
كانت ردود فعل الأصدقاء متباينة عند صدور "بقايا رغوة"، منحني ذلك قدراً لا بأس به من الثقة بما قدّمته، ووضعني في المقابل أمام تحدّي تحويل العوالم التي أتناولها إلى علامة في المشهد الروائي العربي.


لو قيض لك البدء من جديد أي سبيل ستختار؟
عشتُ فتوّتي لاهثاً خلف الرجال والبنادق، استهوتني التجربة، لكنّني لم أستطع الذوبان في المجموع، ضاقت بي الأطر إلى الحدّ الذي يفوق الاحتمال، وضقت بها، ووجدتني مندفعاً نحو نقد واقع التجربة. أحنّ إلى ذلك الزمن في كثير من الأحيان، رغم الإخفاق في التقويم، لم تفارقني القناعة بأنني لن أجد حياة أفضل من الاشتباك مع الحركة الصهيونية كظاهرة عنصرية ـ استيطانية ابتُليت بها البشرية، والنضال من أجل أكثر قضايا الكون عدالة، وحقّ شعوبنا في التحرّر ممّا ابتُليت به.
لن اختار غير تلك الطريق لو فكّرت بالبدء من جديد، بمعنى أنني لست نادماً على ما فعلت، في احتفاظ أجيال الفلسطينيين بإرادة المقاومة، ما يعزّز قناعتي بأنني كنتُ على صوابٍ، وفي جميع الأحوال تريحني الكتابة.

أبو ذر الغفاري شاهِد على قيَم تطحنها ثقافة التوحّش الرأسمالي


ما هو التغيير الذي تنتظره وتريده في العالم؟
لا سلام بين روحي وبين هذا العالم، يكفي مقدار القهر الذي لحق بشعوبنا ليولّد الرغبة في تفكيكه وإعادة بنائه على أسس مختلفة تتيح لأبناء هذه المنطقة العيش بكرامة، وتكفّ يد الظلم والإفقار الذي تتعرّض إليه شعوبنا منذ ما يزيد عن مئة عام.
لم يتمرّد أسلافي على الفراغ، ولا مجال لأن أكون فراغاً بعد ما حقّقوه برفضهم الاستكانة، وإبقائهم على دوران عجلة التمرّد. أرى ملامحي في ثوّار 1936؛ تيّارات فكرية وسياسية تزامنت مع فعلها، وأخرى وجدتُ في تجاربها ما يستحقّ البناء عليها وتطويرها. لا أطلب المستحيل من عالم يقفُ على رأسه، وتحوْل إعاقاته دون سيره على قدمين، وفي تجارب الشعوب والأمم التي نهضت بعد كبوةِ لتنتزع كرامتها وحقّها في الحياة ما يستحقّ الاهتمام.


شخصية من الماضي تود لقاءها ولماذا هي بالذات؟
تحضرني سيرة أمير الفقراء أبي ذرّ الغفاري. لم يسجد لصنمٍ، كان زاهداً في دنياه، رافضاً لإغراءات السياسة، صادقاً في قناعاته، رافضاً للظلم، ثابتاً على موقفه، ولم يكن غريباً أن يصل إلينا منارةً، أو نرى فيه شاهداً على قيَم تطحنها ثقافة التوحّش الرأسمالي.


صديق أو كتاب تعود إليه دائماً؟
ـ كان غالب هلسا تجربة ثريّة تمشي على قدمين، أظننّي كنت محظوظاً بالتعرّف عليه عن قرب قبل رحيله، رأيت في ذلك المفكّر قدرة خلّاقة على الجدل، ونقْد ما كان يجري التسليم به في زمنه، وجرأة التعامل مع المسلّمات الهشّة الركيكة التي قادت إلى الخراب. أعود بين الحين والآخر إلى مقالاته ودراساته الناقدة، التي جُمعت بعد رحيله في كتاب "اختيار النهاية الحزينة.. يوميات الصراع الطبقي في الساحة الفلسطينية في عقد الثمانينيات"، الذي أرى فيه واحداً من مفاتيح فهم مآلات المشهد الفلسطيني.


أيّ تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
هناك أكثر من تجربة تشدّني. يروق لي سماع شوقية العطّار حين تغنّي ما لحّنه حميد البصري، وثنائي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، ويحضرني سلمان زيمان وتلحينه لقصائد توفيق زيّاد.


بطاقة
باحث وروائي من مواليد عام 1966 في قرية رنتيس بالقرب من رام الله. أنهى مراحله التعليمية في الكويت، وعمل في عدّة صحف كويتية وأردنية وعربية. صدرت له رواية "بقايا رغوة" (2021/ الغلاف) عن "دار البيروني" في عمّان، وكتابا "روائيون في متاهة الشرق" (2017) عن "دار ابن رشد" في القاهرة، و"الترانسفير الثالث" (2003) عن" المؤسسة العربية للنشر" في بيروت، إلى جانب نشره قصصاً قصيرة في عدد من الصحف والمجلّات الكويتية.

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون