وقفة مع احْميدة عيّاشي

01 اغسطس 2023
احْميدة عيّاشي أمام "المسرح الوطني" في الجزائر العاصمة، يوليو الماضي (إسلام بوعبد الله)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة حول انشغالاتها وجديد إنتاجها وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "يحرّك الشعور بالنقص فيَّ قدرة خفية على تجديد العيش وتلوينه ومنحه المعنى الذي أبحث عنه"، يقول الباحث الجزائري في لقائه مع "العربي الجديد".


■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- الاشتغالُ على تحضير النسخة الدولية من ماراثون سيدي بلعبّاس (مدينة واقعة غربَي الجزائر)، بعد النسخة الوطنية التي نظّمناها في حزيران/ يوليو الماضي، والبحثُ عن داعمين ماليّين، والاتصالُ بشخصيات رياضية وثقافية لتُشاركنا في الترويج للقضية الإنسانية التي تتبنّاها هذه التظاهرة الرياضية؛ حيث نريد تخصيص ريعها للأطفال المتضرّرين من الحروب.

يشغلني، أيضاً، تنقيحُ مخطوط بدأتُه منذ أكثر من خمس سنوات، وهو عن عبد الحميد بن باديس (1889 - 1940)؛ هذه الشخصية الإصلاحية الدينية والسياسية التي أدّت دوراً في إعادة النظر إلى المسألة الثقافية إبان نشوء وتطوُّر الحركة الوطنية الجزائرية في فترة ما بين الحربَين العالميّتَين، ولا تزال تثير الجدل في الوسط الثقافي والسياسي، ولدى الدوائر المهتمّة والمشتغلة على التاريخ الديني والثقافي والسياسي للجزائر. أُركّز، في الكتاب، على جانب غير مطروق بشكل واضح؛ يتعلّق بالسيرة السياسية لابن باديس.


■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟

- آخر عملَين لي هُما كتابان صدرا في وقت واحد تقريباً خلال الأسابيع الماضية؛ الأوّلُ كتابُ جيب بعنوان "بشطارزي في أميركا: الرحلة المتأخّرة"، ويتناول الرحلة المتأخّرة لعميد المسرح الجزائري محيي الدين بشطارزي (1887 - 1986) إلى نيويورك في النصف الأوّل من السبعينيات، وأثرها على أفكار صنّاع المسرح الجزائري منذ بداية العشرينيات إلى لحظة رحيله عن عالمنا في منتصف الثمانينيات. الثاني بعنوان "بهجة الناظر في ماراثون الجزائر"؛ وهو يتناول موضوعاً مبتكراً في الأدبيات العربية؛ حيث أسرد فيه تجربتي في ماراثون المشي الطويل بالجزائر العاصمة العام الماضي، والذي قطعتُ فيه مسافةَ 42 كيلومتراً في تسع ساعات.

لو قُيّض لي البدء مجدّداً لكنت حارسَ مرمى أو مُلاكماً

أمّا العمل القادم - وهو قيد الطبع - فهو بمثابة سيرة ذاتية تُغطّي الفترة الممتدّة من ثمانينيات القرن الماضي إلى غاية الحَراك الشعبي، الذي بدأ في شباط/ فبراير 2019 وأدّى إلى إزاحة الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة.

يتناول الكتابُ مسار زوجَين عاشا لحظات التحوُّل من مجتمع مغلق داخل نظام الأُحادية إلى مجتمعٍ جرّب التعدُّدية السياسية والثقافية، إلّا أنّ ذلك لم يدُم طويلاً مع صعود الإسلام الشعبوي وانخراط المجتمع في صراع عميق انتهى بنشوب حرب أهلية استغرقت قرابة عشر سنوات، وكان تأثيرُها كبيراً على المكسب الديمقراطي الهشّ، ثُمّ تلت ذلك تراجعاتٌ كُبرى في جميع الميادين المتعلّقة بالحريات ومسائل التغيير، ما أنتج الكثير من الخيبات والصراعات القاتلة والانطواء الجماعي والفردي على النفس. أُثير في هذا العمل سيرةَ جيل، ومن خلال ذلك، أروي تقاطُع الأقدار وصراع الإرادات، وذلك عبر العلاقة المعقَّدة التي تربط بين زوجَين سيعيشان أهوال الحرب الأهلية بكل غموضها وجنونها وكوابيسها، وسيرتبطان بكلّ الآمال الممكنة التي كانت تغذيها المقاومات اليومية طمعاً في الخروج من نفق الموت والفزع والفظاعة الإنسانية.


■ هل أنت راض عن عملك؟

- عندما أشتغل، لا أُفكّر في الرضا، بل أفكّر في الاجتهاد أكثر في المرّة القادمة. قَدَر الكاتب هو سيزيفي، دائماً تحوم عليه العودةُ الخلّاقة إلى البدايات التي تُذكّره بالعمل غير المنجَز، بالعمل الذي يستحقّ المزيد من الجهد ليكتمل إلى حدّ ما، وهذا "الحدُّ ما" هو الذي يجعلني أفكّر خارج فخ الرضا أو عدم الرضا، ويجعلني أنظر إلى نشاطي في مختلف المجالات، وأساساً الإبداع، كمشروع مفتوح مستحيل الكمال. هذا الشعور بالنقص يحرّك فيَّ تلك القدرة الخفية التي تجعلني أتلمّس الرغبة في تجديد العيش وتلوينه ومنحه المعنى الذي أبحث عنه في الزمن اليومي التوّاق إلى المطلق المعقَّد.


■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أيّ مسار كنت ستختار؟

- حارسَ مرمى كرة قدم، أو مُلاكماً محترفاً.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالَم؟

- في حياتي، لم أؤمن بالانتظار، لأنّه يُشعرني بأنّ مصيري بيدِ آخرَ غير مرئي، بيد القدَر الغامض. آمنتُ أن أذهب إلى مصيري، أن أشقّ طريقي نحوه، أو، بمعنى من المعاني، أن أسعى إلى المساهمة في صنعه. التغيير الذي أريد أن يحدث في العالم هو أن يتحقّق العيش المشترَك بصفة جذرية تكون بمثابة انقلاب عميق داخل إرث الثقافات المهيمنة أو السيادات المسيطرة، أن يتحقّق هذا التغيير في الواقع، ويكفّ عن البقاء حبيساً للشعارات والأمنيات المثالية، أن يتوقّف العبث الوجودي، وتتراجع الحروب إلى أقصى نقطة، ويحلّ السلم داخل المجتمعات وبين الدول، وأن يتقهقر الزحف المتوحّش للرأسماليات المتجدّدة، وتتراجع الشوفينيات الوطنية والقومية، وتنتصر في النهاية إرادة الإنسان التي تَعني المزيد من التبادل والحوار في مجال الثقافات والأفكار والأديان وكلّ أشكال العقائد، وتعني كذلك المزيد من الاهتمام بالطبيعة والبيئة والحفاظ عليهما.


■ شخصية من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟

- النبيّ محمّد، صلوات الله عليه؛ لأنّه شخصية عظيمة غيّرت مجرى التاريخ والمصير الإنساني. أُريد رأيه في الإسلام اليوم، هل هو الإسلام الذي تخيّلَه في بداية دعوته، وهل هو راضٍ عن حال الإسلام والمسلمين اليوم؟

أُريد أن ألتقيه وهو يمشي بيننا، وأسألَه، كصحافي وكمسلم وكإنسان، عن معنى أن نكون اليوم مسلمين حقيقيّين، وما هي الرسالة التي علينا الإيمان بها، وترجمة هذا الايمان في مجتمع تتنازعه الحروب والسباق الجشع نحو احتكار الثروة والرغبات المجنونة في إيذاء من يختلف عنّا في العقيدة وقتال من لا يشاركنا تأويل الدين الإسلامي... أُريد أن أُصغي إليه وهو يتفقّد أحوال أمّته إن كانت هي التي قصدها القرآن الكريم بـ"خير أُمّة أُخرجت للناس"، وهو يرى عالمنا اليوم بكلّ اختلافاته وأفكاره وأطيافه وطموحاته، وبكلّ إنجازاته في العلوم والفنون، إنْ كان فعلاً على ضلال، وماذا يمكن أن يعنيه اليومَ الإيمانُ بالله وكتبه ورسله. أُريد أن أسأله عن رأيه في ما جرى بعد وفاته من صراع دموي بين أتباعه، صار في ما بعدُ شبهَ أزليّ بين أتباع أتباعه، هل كان لا بُدّ من تلك الحروب الأهلية المتواصلة ليثبت كلُّ فريق تَشبّثه بالإسلام الصحيح، وبالتالي أُريد أن أسأله بلغة بسيطة وحميمة: "حبيبي يا رسول الله، ما الإسلام الصحيح؟ هل هذا الذي يقتلنا من أجله كلُّ ذلك التاريخ من السجالات القاتلة التي كانت خارج الإيمان الذي أرسلك الله لنشره ودعوة الناس إليه؟" أريد أن أسأله في معنى الحرية، والاختلاف، والعبادة، والأخلاق، والحُبّ، والجنّة، والجحيم الإنساني، والمجاعة، والحوار، واليوم الآخر.

لا أؤمن بالانتظار، فهو يُشعرني بأنّ مصيري بيدٍ غير مرئية

كثيرةٌ هي الأسئلة التي لا تزال معلَّقةً وتُثير نفسها مع كلّ جيل وكلّ تاريخ جديد، ومع كلّ فرد أو جماعة مسلمة تبحث عن إسلامها الحقيقي، وكلّ إنسان معذَّب بهذه الانسانية التي تحتاج إلى نور يضيء أمامها طريق الحقّ والحقيقة؛ طريق العبادة الحيّة والحرية.


■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- رحلة ابن بطوطة؛ "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، تارةً أقرأه بالعربية وتارةً أُخرى أقرأه بلغة أجنبية، وفي كلّ قراءة أكتشف عظَمة الرحلة وعبقرية هذا الرحّالة، الذي أدرك كيف يجعل من كيميائية تجربته الإنسانية وكشوفاته في عالَم الحقيقة والخيال منارةً نهتدي بها إلى طريق المجهول الذي لا يفارقنا في مختلف مراحل العمر والتجارب التي اكتنزناها ونسعى إلى اكتسابها في الوقت نفسه.

أمّا الصديق الذي يخطر على بالي، لأنّنا بدأنا نقاشاً مفعماً بالحُبّ والشكّ والإيمان الحرّ والفصول ولم نتممه، وبقي معلّقاً إلى أن ألتقيه هناك في العالم الآخر، فهو علي بن علي؛ شخصٌ شجاع، نزق الأفكار، مجنون، مفرط الإنسانية، طاهر وشيطاني، وثقت به في أوّل لقاء جمعني به. كان في العشرينيات من عمره، يميل لون بشرته إلى السمرة، أمُّه مصرية يهودية تحوّلت إلى الإسلام وتزوّجت بجزائري صار في ما بعد أستاذاً جامعياً لا يُحبّ الأضواء والظهور. ولذا ظل بالنسبة إليَّ غامضاً ومبهم الوجود. حدّثني عنه علي بعبارات غامضة وسريعة. أنجب هذا الأب طفلةً وطفلاً هو علي، بعد سنوات حدث الطلاق، فعادت الأمّ إلى القاهرة حاملةً ابنها معها، لكنّه بقي على علاقة مع والده وأخته. درس في جامعة الأزهر، وفي مدرسة خاصّة فرنسية، تعلّم الفرنسية وبات ينطقها ويكتب بها بطلاقة، إلى جانب العربية والإنكليزية.

في بداياته الصحافية، اهتمّ بحركات الإسلام السياسي، وتعاون مع عدّة وسائل إعلام أجنبية، ثمّ أصبح مساعداً لأحد أكبر خبراء الإسلام السياسي الفرنسيّين، ويُدعى فرونسوا بورغا. كتب عن إسلاميّي مصر والجزائر. ويذكره هذا الأخير في كتاب له بعنوان "مواجهة مع الإسلاموية" (l’islamisme en face). سُجن علي بسبب تعاونه مع الصحافة الأجنبية لثلاثة أشهر، ثم طُرد من مصر إلى الجزائر؛ حيث جرى التحقيق معه من طرف مصالح الأمن الجزائرية، وحجْز كاميرته وحاسبه الذي خزّن فيه فصولاً من كتابه عن الجهاديّين في مصر، وعنوانه "سيّدي الرئيس الله أكبر".

روى لي كلَّ ذلك عندما زارني لأوّل مرّة في جريدة "الحدث" التي كنتُ أدير تحريرها. كان يتحدّث بعفوية وبراءة، وبدت لي شخصيته شفّافة وغامضة في نفس الوقت. بعدها صرنا صديقَين. كان ذلك في عام 1994. كانت الحرب مشتعلةً في الجزائر، وكذلك "الحرب على الإرهاب" في القاهرة. حاورني لصالح مجلّة فرنسية حول كتابي عن الإسلاميّين في الجزائر، وتعلّمتُ منه الكثير ممّا كان يحدث من صراع بين الجماعة الإسلامية وقوّات النظام في مصر، وتمكّنتُ من إجراء لقاء في ذلك العام مع مقرَّبين من الجماعة الإسلامية المسلحة، ويعود الفضل في ذلك إلى المساعدة التي قدّمها لي علي بن علي؛ حيث بعثني إلى أحد الإعلاميّين الذين كانوا يشتغلون في جريدة "الشعب" المصرية، ولمّا عدتُ إلى الجزائر، التقينا في مكتبي بـ"دار الصحافة" (الجزائر العاصمة)، وأخبرني بحماسة عن تمكّنه من الحصول على موعد مع أمير "الجيش الإسلامي للإنقاذ" في الجزائر مدني مرزاق، وأنّه سيذهب إليه في معقله بجبال جيجل. نصحتُه بالحذر والسرية، فضحك وقال لي: "لا عليك"، ثم عبّر لي عن سعادته لأنّي تمكّنت من الاتصال بالجماعة الإسلامية. وعدني بأنّه سيروي لي القصّة كاملةً عن أسباب طرده من القاهرة، ثم أخبرني بأنّ مصالح الأمن أعادت له جواز سفره، وبأنّ بورغا سيساعده على إتمام دراسته في سويسرا بعد مغادرته الجزائر.

بعد أسابيع، أخبرني أحد الزملاء أنّ علي وُجد مذبوحاً في منطقة الميلية، القريبة من جيجل (شرقَي الجزائر)، بعد عودته من لقاء أمير "جيش الإنقاذ". وبعد شهر، صعدتُ إلى الجبل والتقيتُ مدني مزراق، وأخبرني، لمّا سألته عن موت علي بن علي بذلك الشكل الغامض، أنّ هناك احتمال أن يكون من قتله هي الجماعة الاسلامية أو جناحٌ في قوّات الأمن. في طريق عودتي المحفوف بالمخاطر، توقّفتُ في الميلية، في المكان الذي ذُبح فيه علي منذ شهر، وتخيّلته ينبعث من عتمة المكان، تخيّلتُ عودته شبحاً مضرّجاً بالدم، لكن لا شيء سوى صوت الريح كان يحدّثني. همست: "لم نكمل حديثنا يا صاح"، لكنّني رحت أعلّل النفس بالأماني.. أنّنا سنلتقي يوماً.


■ ماذا تقرأ الآن؟

- بصدد قراءة كتاب "العولمة والحياة اليومية" للاري راي بترجمة الشريف خاطر. يندرج الكتاب الصادر عن "المركز القومي للترجمة" ضمن "علم الاجتماع الجديد".


■ ماذا تسمع الآن، وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- أستمع الآن إلى التراث الغنائي لمؤسِّسة الراي النسوي وإحدى رائدات أغنية الراي؛ المعروفة باسم الشيخة الريميتي (1923 - 2006). نتعلّم منها الإصرار على تجاوُز التقليدي، والعشقَ المجنون للحرية، ونكتشف من خلال تجربتها كيف جعلت من فنّ المهمَّشين مصدرَ إلهام وكفاح في سبيل كرامة الإنسان وتعميق العيش المشترك.


بطاقة

كاتبٌ ومسرحيّ جزائري من مواليد سيدي بلعبّاس غربيّ الجزائر عام 1958. عمل في الصحافة منذ نهاية الثمانينيات، وتخصّص في الجماعات الإسلامية وفي النقد المسرحي. له في الرواية: "ذاكرة الجنون والانتحار" (1986)، و"هوس" 2007)، و"متاهات ليل الفتنة" (2010)، وفي المسرح: "قابيل وقابيل" (1998)، و"قرين 1962" (2012). من كُتبه الأُخرى: "الإسلاميون بين السلطة والرصاص" (1991)، و"نبيّ العصيان: عشر سنوات برفقة كاتب ياسين" (2011)، و"سنوات الشاذلي بن جديد" (2014)، و"رسائل إلى أميرة" (2017).

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون