وشم على كتف الروبوت

06 أكتوبر 2021
جزء من "أدعية إلى بغداد" لـ رافع الناصري، أكريليك على قماش، 1984
+ الخط -

كنتُ في البصرة، مختبئاً بين أكياس الرمل. قالوا إن الطائرات الأميركية ستقصفنا، وقرّر الرئيس أن نواجه تلك الطائرات الحديثة بصدورنا العارية. لم أكن أنتمي إلى الأرض ولم أفكر بالاستسلام للعدو، لم أكن قد اخترت تجنيدي من عدمه، لكنّني اليوم، أو بعد لحظات، سأفعل ذلك، أصدّ الطائرات بصدري.

خرجتُ من حصني وانتظرتُ هناك في الصحراء أنظر للسماء، وقد تركت سلاحي أرضاً، أردتً أن أموت ميتةً واقعية، والحمد لله أن الطائرة الأميركية لم تستخدم ضدّي قنبلة الـ"بي 52" واستخسرَت أن تهدر قنبلةً غالية الثمن والتصنيع على جندي انتحاري مثلي، ورمتني برشقات الرصاص المتقطّع.

همدتُ أرضاً بعدما دفعني الرصاص إلى الخندق من جديد. لقد بُترت يداي في لحظة، وطارتا في السماء، قصّ الرصاص يديَّ مِن مكان ارتباطهما بالكتف، وكأن من سدّد تلك الرصاصات قد رسم ذلك، أراد أن يرى رجُلاً من دون ساعدَين فاختارني دون غيري.

لا أعرف كيف لأيّ واحد منهم أن يبرّر فعلته، يقتل جندياً في أرض تبعد عن بلاده آلاف الأميال، ويقنع نفسه أنّ جندياً هزيلاً مثلي سيُشكّل خطراً على قومه الذين يقطنون هناك وراء المحيطات. ربما لم يكن دافعاً وطنياً.

أراد أن يرى رجُلاً من دون ساعدَين فاختارني دون غيري

ربما فعل ذلك بدافع الملل، أو أنه أراد أن يُنهي الحرب مبكراً ليعود لعائلته، هل كان عليه فعلاً أن يقتل رجالاً من أجل عائلته؟ هل تشعر عائلته بالأمان وهم يُساكنون رجلاً قد يَقتل في اليوم الواحد عدداً غير محسوب من البشر؟

عشت بعد ذلك ثلاث سنوات وأنا أبدو كقضيب متحرّك، لم يكن من السهل عليّ تناول الغذاء، ليس لأنّني من دون يدين، لم يكن الغذاء متوفّراً أصلاً، لم تقطع أميركا يدي فقط، بل قطعت كلّ يد عراقية الأصل.

مرّت علينا أيام القحط والجوع، كأنّ الله قد خبّأها لنا خصّيصاً، حتى صيّرتنا هياكل عظمية، المشترك بيننا في تلك الفترة أنّنا جميعاً صارت لنا سحنة وجه واحدة تظهر فيها عظام الفكّين واضحةً ترسم وجوهنا مثلّثة الشكل. 

في العام 1998، اكتفت منظّمات حقوق الإنسان من فرجتها وتأكّدت بالفعل من ضرورة مساعدتنا. تواصلت إحدى المنظّمات معي شخصياً، من أجل إعادة تأهيلي، وقد فعلوا ذلك، أعطوني يدَين من الحديد، ربّما قطعوها من كتف روبوت، وألصقوها على جسدي.

 كانت هناك مرحلة أولى للتأهيل تُدعى "الاندماج العضلي"؛ حيث يُترك الجزء المبتور للتعرّف على الجسم الحديدي الذي أُلصق فيه. تسبّب ذلك بآلام وطفح جلدي، حتى أنّني خلت أنّ هذا الألم كان سببه حرقة قلب الروبوت الذي انتزعوا منه تلك اليد.

بعد ستّة أشهر من العلاج الطبيعي والتمارين، امتلكتُ يدين يمكنني أن أرفعهما إلى السماء مرّة للدعاء وأُخرى للاستفسار عن ضرورة ما حدث معي. عدتُ أمارس حياة شبه طبيعية، أقوم ببعض الأعمال، وبعد عودة يدي صرتُ آكلُ من جديد دون مساعدة أحد، وفي المجمل كنت آكل بفضل اتفاقية "النفط مقابل الغذاء".

في نيسان من ذلك العام المعروف، دَخلت دبابات "البرامز" إلى وسط المدينة، وراح الناس يتجمهرون حول المحرِّرين. لقد حرّرونا من صديقهم السابق الذي تخاصموا معه، ربما على أوراق قمار أو قضية قومية. الناس يحيطونهم بالورود والتصفيق، وفكّرت أن أصفق معهم. لِمَ لا أصفّق؟

حتى لو كانوا هم من بتروا يدي، فقد استبدلوا لي البشريّتَين باثنتَين أكثر صلابة وأشدّ قوة، ورغم أنهم وشموا عليها اسم بلادهم ليذكّروني بفضلهم كلّ يوم، لكن ما يهمني الآن أنني قد استعدت يميني وشمالي.

لكن حينما أراد كفّي أن يلامس الآخر، وقبل أن يُصدرا صوتاً، تذكّرتُ أن أسأل نفسي لِمَ فعلوا بي ذلك؟ لِم بتروا يديّ واستبدلوها بقضبان؟ لماذا يا أميركا تفعلين ذلك بنا كل يوم، تستبدلين البشري بالحديدي؟


* كاتب من العراق

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون