ليس هناك في إسبانيا من ينطبق عليه وصف محبّ العرب والعربية لغةً وحضارةً وثقافةً وتاريخاً أكثر من بيدرو مارتينيث مونتابيث. المستعرب المؤرّخ والمترجم والأكاديمي، الذي غادر عالمنا أمس الثلاثاء في مدريد، قضى عقوداً من عمره في الجامعة الإسبانية وساهم في تغيير وجهة الدراسات العربية فيها، بل ارتبط اسمه بدخول قيم الديمقراطية إلى الجامعة الإسبانية، فهو أول عميد للجامعة يُنتخب بشكل ديمقراطي بعد أفول الفرنكوية ومجيء العهد الجديد.
كان بيدرو مارتينيث مونتابيث، كما تقول رفيقته كارمن رويث برافو بياسانتي، "يؤكّد أنه حين ينظر إلى الخلف، يجد أن أهمّ ما أنجزه، تحمّله لمسؤولية عميد 'جامعة مدريد المستقلّة' بين 1978 و1982". كان يعي جيّداً أنه يُرسي أُسس البناء الديمقراطي، وممارسة الاختلاف والتعدّد الفكري، والدفاع عن القيم على جميع المستويات، والأدب والتاريخ العربيّان كانا أساساً في ذلك.
عاشق حقيقي للغة العربية وآدابها، هو الأندلسي المنغرس في تربة أندلسه الخصيبة، حيث وُلد في إحدى قرى إقليم جيان عام 1933، واعترف بأفضال أستاذه إيميليو غارسيا غوميث في نبش حفريات تاريخ الأندلس، وزاوج في مساره العلمي والأكاديمي بين البحث في التاريخ، وبين دراسة الأدب العربي وترجمته إلى الإسبانية.
كان عنواناً للدراسات العربية والتضامن مع فلسطين في إسبانيا
تناول في أبحاثه تاريخ العرب، وأصدر في هذا المجال أعمالاً عديدة، نشرها منذ تسعينيات القرن الماضي: "التفكير في تاريخ العرب" (1995)، و"تحدّي الإسلام: الأزمة الطويلة في العالم العربي المعاصر" (1997)، و"العرب والمتوسّط: تأملات منذ نهاية القرن" (1998)، و"العالم العربي وتغَيُّرات القرن" (2004)، و"تطلّعات الغرب والنواقص العربية" (2008)، بين مساهمات أُخرى لا تزال مغمورة في كتب ومجلّات وصحف ومقدّمات.
أمّا الشق الثاني المتعلّق بدراساته للأدب العربي وترجمته، فيشمل العديد من الإصدارات التي عرّفت بأسماء أساسية في الأدب العربي، مثل نجيب محفوظ ونزار قبّاني وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش؛ نذكر منها: "شعر عربي معاصر" (1958)، و"قصائد حب عربية" (مختارات شعرية لنزار قباني، 1965)، و"شعراء عرب واقعيون" (أنطولوجيا، 1970)، و"شعراء المقاومة الفلسطينية" (1974)، و"قصائد سياسية لنزار قباني" (1975)، و"استكشافات في الأدب العربي الجديد" (1977)، و"القصيدة هي فلسطين: فلسطين في الشعر العربي الراهن" (1980)، و"مقدّمة في الأدب العربي المعاصر" (1985)، و"الأدب العربي الحالي" (1990)، و"أغاني مهيار الدمشقي" لأدونيس (1997).
اهتم بيدرو مارتينيث مونتابيث في دراسة تاريخ العالم العربي بفترة زمنية ترتبط مباشرة براهن العالم العربي، أي فترة دخول الاستعمار الغربي هذا العالم واحتلاله عسكرياً، فترة تتّسم بكونها الأكثر إذلالاً وإهانة للإنسان العربي، بل إنّها، رغم الاستقلال الشكلي، ما تزال ممتدّة في التاريخ الراهن، وتشكّل حسب مونتابيث جرثومة تنخر الكيان العربي، وهي أساسُ كلّ الصراعات الحالية التي تعصف ببلدان هذا العالم، بدءاً بفشل الحركة القومية في جانبيها النظري والعملي، ثم التطوّر التدريجي باتجاه الأصولية الإسلامية التي لا يمكن فصلها عن الهيمنة الاستعمارية والإذلال، مثلما هو الحال مع السياسة الإمبريالية والأيديولوجية الصهيونية الداعمة لـ "إسرائيل"، والتي تضطهد الشعب الفلسطيني منذ نشوئها، من أجل الحفاظ على الإذلال الأبدي للعرب وتبريره. إنها باختصار، علاقة معقّدة ومتناقضة بين الغرب والعرب، يصفها مونتابيث بأنها "في الآن ذاته علاقة قبول ورفض، وتغذية وقيء، وجاذبية ونبذ وود وكراهية، واعتراف وإنكار".
الاستعمار الغربي ما زال بحسبه جرثومة تنخر الكيان العربي
تفسير مونتابيث المنطقي لما حلّ ويحلّ بالعالم العربي من ظلم ناتج عن الإذلال الأبدي والإهانة، يجعل أعماله تكتسب ديناميكية، منذ تسعينيات القرن الماضي، أي منذ الأحداث التي يمكننا اعتبارها بداية لنظام عالمي جديد، سيقود "الشرق الأوسط" إلى فوضى درامية عارمة سيغرق في خضمها، وتلك الأحداث هي حرب الخليج 1990-1991 وعواقبها الكارثية، وغزو أفغانستان في 2001، وغزو العراق عام 2003، وما تلاه من تفكيك كامل للدولة، وبروز للإرهاب، وقبله مفهوم صراع الحضارات لـ هنتنغتون، وتفاقم الإسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية.
رغم أن مونتابيث يغطّي في دراساته جميع مناطق العالم العربي وبلدانه، إلّا أنه يركّز بشكل أساسي على "قلب العالم العربي"، أي على العراق وسورية ومصر التي كانت المحرّك الثقافي والفكري والأيديولوجي للعالم العربي منذ النهضة في القرن التاسع عشر، وبلا شك، ركّز اهتمامه بشكل مستمر على فلسطين "أمّة وشعباً وفكرة"، مثلما يؤكّد ذلك هو ذاته، إذ تمثّل فلسطين بالنسبة إليه المصير الجائر في هذا العالم العربي المهان وفي أقصى حدود الإذلال، ويجسّد الفلسطينيون صورة الظلم والتطهير العرقي والعنصرية والحرمان من الحقوق الأساسية.
يُسجَّل لبيدرو مونتابيث أنه وقف دائماً إلى جانب الحق وأدان الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، بل إنّه دافع عن الفلسطيني كناشط ملتزم، وكرئيس لـ"جمعية أصدقاء الشعب الفلسطيني" في إسبانيا، وهو أيضاً رئيس "جمعية الصداقة الإسبانية العربية"، ورئيس "الجمعية الإسبانية للدراسات العربية".
يقول في كتابه "العالم العربي وتغَيُّرات القرن": "ليس من باب السخرية أن نتساءل عمّ إذا كان يمكن للفلسطينيين أن يشكلوا عاملَ تغييرٍ أو عنصراً له في السياق العربي، وتحديداً الآن، لما يكون أكبر انشغال يستحوذ عليهم وأكبر غمٍّ يجتاحُهم هو مرّة أُخرى مجرّد البقاء قيد الحياة. وأقول مرّة أخرى لأنهم، رغم كونهم يعيشون منذ سنوات طويلة هذا الانشغال الأقصى والغم الأكبر، في مواجهة خطر وتهديد تدميرهم، وربما إلى حدود الإبادة والهولوكوست. إنّ الوضعية التي يوجدون فيها حالياً يمكن أن تكون بشكل خاص جدّ خطيرة وخانقة، دون أن تلوح أي إشارات تشي بحل أو مخرج ضيق في الأفق. أوضح أنني أستعمل كلمة هولوكوست مع النية الكاملة في تحميل العبارة معناها، من بين أشياء أُخرى، لأنه عندما تجرى الإحالة على الشعب الفلسطيني، فإن الأمر يأخذ بعداً خاصّاً ومعنىً إضافياً".
* شاعر ومترجم من المغرب