وحدها الأرض تُخيفُه

02 يوليو 2021
أليساندرو باريكو عام 1990 (Getty)
+ الخط -

يولد داني بوودمان ت. د. ليمون، المعروف بـ "1900"، وحيداً في لحظة مشدودة بين قرنين، على متن سفينة ركّاب، فيرجينيان، تقطع المحيط بين أوروبا وأميركا ذهاباً وإياباً. يولد في مهد المياه كأنّه مَسيح أُرسل لتخليص البحر من مِحنة الغرق في الأرض الغارقة في رملها وغبارها.

يَعثر عليه بحّارٌ مستلقياً في بطن صندوق ليمون على ظهر بيانو. يجده فاغراً فمه ودمه على رائحة الحياة القوية ولُغزها الأزرق: صندوقٌ ثقيل يحمله نغمٌ شفيف وغامض لا جسم له ولا وزن، كسعادة مجّانية دون مقابل ودون تعليمات استخدام. يفاجئه البحّار المهووس بالأسماء على بُعد سنتيمترات من مفاتيح البيانو كحلمٍ فائض عن حالميه العابرين، كنوتةٍ انفصلت عن ثدي الكون لترضع مُلوحةَ الفقد وترتوي من ظمأ الموسيقى.

يمنحه اسماً صاخباً كمصيرٍ إغريقيّ وطويلاً كرحلة دون ميناء. كأنّه ابن البِحار المدلّل أو عوليسُها الحميم المنزّه عن غضب الآلهة، المعصوم عن شبَق العودة. كأنّه نديم الرّياح ونجيُّها، تُغويه وتبثّه لوعاتِها ونزواتها. آدم لاجئ في جنّة من جازٍ عبقريّ لا نشاز فيه سوى الرغبات.

يعرِف أيّامَه أو يعزِفها ارتجالاً. يعبر الوجود متسلّلاً دون أوراق ثبوتيّة بين أوطان من موسيقى وانتظار، سليل عائلة الموج النبيلة، سلطان سوينغ العواصف، سيّد السراب الكحليّ المسحورِ بما يؤلمُ طرفة بن العبد في بيدائِه: "قربُ الحبيب وما إليه وصول".

كتب أليساندرو باريكو نصّاً مسرحيّاً بارعاً، "1900، مونولوغ عازف البيانو في المحيط" (1994)، حكايةً تختزل وجوداً راقصاً، أي حقيقياً ودون مجاز، وناقصاً، أي دون شاطئ، في الآن ذاته. دوّن بخفّة النوارس وحِدّتها رواية الحياة الطافية على البحر والناجيةِ من اليابسة ومن ثِقَل الجذور. حياة سائلة صالحة للذوبان. وللعوم. قصّة عازف بيانو يعوم على سطح العالم ملسوعاً من أصابعه ذائباً في موسيقاه، مُسَرْنَماً كأنّه يحاذر أن يوقظ الموت من غفلته، أو الماء من مراياه.

يواصل عزفَه للحبّ وللنجوم ولكلّ أنواع المهاجرين. كلّ مدٍّ يهتف له وكلّ جَزر. كلّ شراعٍ يخفق لقلبه الأطلسيّ. وكلّ وداع. وحدها الأرض تُخيفُه: "الأرض، تلك سفينة ضخمة جدّاً بالنسبة إلي"، يقول، "رحلة طويلة جدّاً. امرأةٌ جميلةٌ جدّاً. عطرٌ ثاقبٌ جدّاً. موسيقى لا أُتقِن عزفَها".


* شاعر واختصاصي نفسي عِيادي من فلسطين

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون