في سياق الحرب الإباديّة المفتوحة التي يشنّها الاحتلال الصهيوني على غزّة منذ ثلاثة أشهر، صدرت عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، الطبعة العربية من كتاب "لا سلام لفلسطين: الحرب الطويلة ضدّ غزة، الاحتلال والمقاومة" للباحثة الألمانية هِلغى باومغرتن، بتوقيع المترجم محمد أبو زيد ومراجعة عصام سليمان. حيث صدّرت عملها بعبارة "في ذكرى ضحايا الحروب الإسرائيلية على غزّة - إلى أطفال غزّة: من بيت حانون إلى رفح".
ينطلق الكتاب الذي يقع في 248 صفحة، من عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بوصفها تاريخاً لن يمرّ مرور الكرام... حيث يجتاح مقاتلو "حركة حماس" فجأة جميع خطوط "دفاع" جيشٍ نشأ وترعرع وعاش على العدوانية، وكان يسمّي نفسه زوراً جيشَ "الدفاع" الإسرائيلي، ساحقين في طريقهم جدار غزة ومعبر "إيرز" الاحتلالي، والنتيجة الصاعقة: المعبر الحصين في يد الحركة، وراكبو طائرات شراعية يحلّقون فوق الجدار، ومقاتلون آخرون يخوضون البحر ليلتقوا مع إخوانهم المستعدّين للاشتباك مع جيش الاحتلال الأوحد في عالم اليوم.
ولكن، لم يعد ثمّة وجودٌ لهذا الجيش، فمقرّ فرقة غزّة، القطاع الذي حوَّله أبشعُ الاحتلالات وأكثرها إجراماً أكبرَ سجنٍ مكشوف في العالم، يصبح أثراً بعد عين، جنودُه وضبّاطه إمّا فارّون أو قتلى أو أسرى، أما مستوطنات "غلاف غزّة" التي رسمت طوقاً خانقاً وطويلاً على رقبة حوالي مليونين من قاطني القطاع فتذْرَعُها أقدام الحمساويين جيئة وذهاباً، ملؤها الصمت والأَسْر وأكثر من ألف قتيل من جنود وشرطة ورجال إطفاء ومتطوّعي دولة كانوا يصرخون في المحافل: "لا وجودَ لشعب فلسطيني". مئتا رهينة نُقلت إلى غزّة، والمطلب لإطلاقهم تصفير السجون الإسرائيلية من المعتقلين الفلسطينيّين، وفي مطلعهم، وقبل كلّ شيء النساء والأطفال.
شاركت ألمانيا في تشريع الباب أمام "إسرائيل" للاستمرار في استعمارها الاستيطاني
ساعات تمرّ ولا ردَّ فعل إسرائيليّاً، ليصل إلى أسماع الغزيّين بعدها ذلك الذي يعرفونه منذ أن عرفوا الاحتلال: الجيش الإسرائيلي بصدد تسوية غزّة بالأرض، وعَجْنِ لحوم أبنائها ودمائهم بحَجَرِها، وقد أطلقها وزير دفاعه بلا حياء: "الفلسطينيون 'حيوانات بشريّة'، وجميعهم 'إرهابيون'"، متسلّحاً بالعنان الذي أطلقته له أوروبا والولايات المتّحدة، اللتان حوَّلتا بسحر الإعلام الخادع فيهما المُضطهِدَ ضحيّةً والمضطهَدِين مُعتدين، فبلغتا من النفاق والرّياء حدّاً لم يعد مقبولاً، حتى ألمانيا شاركت في تشريع الباب أمام "إسرائيل" لتهجير شعب إلى دولة أُخرى، وللاستمرار في استعمارها الاستيطاني، وتعزيز نظام الفصل العنصري في حقّ الفلسطينيّين، وانغماسها في مزيد من جرائم الحرب ضدهم، وكلّ ذلك تحت صورة "الحمل البريء" المُدافع عن نفسه ضدّ "البرابرة المسلمين".
لقد آن أوان الإدارات الأميركية والحكومات الأوروبية للإذعان لمنطق أنّ القوّة المادّية التي فُضّلت بها دُولهم على بقيّة الأُمم إذا ظلّت سيفاً للدعم الأعمى للمُعتدي ولم تُستخدَم للضغط الشديد على "إسرائيل" كي توقف جنونها واحتلالها وفصلها العنصري وتفكّ حصارها عن الفلسطينيّين وتقبُّل العيش إلى جانب دولة فلسطينية، فإنها ستكون كمَن يسعى للخلاص من رمال متحرّكة لا يلبث أن يغرق فيها، إذ بهذا فقط تحول هذه "القوى العظمى"، دون وقوع عنف جديد وأشدّ سوءاً، وتفتح الباب للخروج من دوّامته التي لا نهاية لها، فهل استطاعت إخضاعَ قطاع غزّة سبعُ حروب إسرائيلية، خمس منها قام بها نتنياهو؟
ألم تُوْدِ هذه الحروب في النتيجة إلى هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الأخير؟ هل نجحت عملية "أمطار الصيف" في 2006 لفكّ أَسْر جلعاد شاليط بإطلاقه إلّا بمفاوضات استمرّت خمس سنين مقابل 1027 من الأسرى الفلسطينيّين؟ هل كانت حصيلة عملية "الرصاص المصبوب" في 2008 - 2009 لوضع حدٍّ للهجمات الصاروخية الفلسطينية بعد 22 يوماً سوى صفر من المَطلب الإسرائيلي واستمرار إطلاق الصورايخ، ولكن بحصيلة ثقيلة هذه المرّة من دماء الفلسطينيين العُزّل قدرت بـ 1400 شهيد؟
جيش نشأ وترعرع على العدوانية ويسمّي نفسه زوراً جيشَ "الدفاع"
وهل انتهت معركة "عمود السحاب" في 2012 التي أرادتها "إسرائيل" للقضاء على قدرات المقاومة الصاروخية، سوى بـ 165 شهيداً فلسطينيّاً و1500 صاروخ على البلدات الإسرائيلية؟ وهل حقّقت عملية "الجرف الصامد" الإسرائيلية في 2014 لهدف الحرب السابقة نفسه، سوى إيغال الإجرام الإسرائيلي أكثر في سفك دماء البيئة الحاضنة للمقاومة الفلسطينية، وإزهاق أرواح - وفقاً لتقرير "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" في 3 تشرين الأول/ أكتوبر - 2189 شهيداً مدنيّاً، 70 في المئة منهم أطفال، وهدم 113 ألف منزل؟
وهل استطاعت "إسرائيل" منع صواريخ "حركة الجهاد الإسلامي" التي أفلتت من منظومة "القبة الحديدية" من السقوط على أراضي المحتلّة التي يقطنها اليهود إثر إعلان الحركة معركة "صيحة الفجر" في 2019 ردّاً على اغتيال اثنين من قادتها؟ وهل منعت "إسرائيل" عام 2021 سقوط 12 قتيلاً إسرائيليّاً بصواريخ "كتائب القسّام" إثر اقتحام قوات الاحتلال المسجد الأقصى وتفريقها المحتجّين الفلسطينيين ردّاً على تزايد اعتداءات المستوطنين ومحاولاتهم الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيّين، على الرغم من تسبُّب قصفها المضادّ على غزة والذي استمرّ 11 يوماً، في استشهاد 243 فلسطينيّاً، منهم 66 طفلاً و39 امرأة و17 مسنًّا؟ ألم تكن عملية "الفجر الصادق" الإسرائيلية بسبب اغتيال قائد في "سرايا القدس" التابعة لـ"حركة الجهاد الإسلامي" في عام 2022 بطائرة مُسيَّرة، لتردّ الحركة بعملية "وحدة الساحات"، وإطلاق مئات الصواريخ على مستوطنات إسرائيلية بالتعاون مع "كتائب المقاومة الوطنية"، و"كتائب المجاهدين" و"كتائب شهداء الأقصى" الجناح العسكري لحركة فتح؟
شهد عام 2023 إرهاصاتٍ أوصلت إلى ما حدث في اليوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وهو ما تُمكن تسميته "أعظم الحروب" على قطاع غزّة، التي لا تزال رحاها التي تطحن عظام أطفال القطاع المظلوم تدور، ومن هذه الإرهاصات: اقتحام مستوطنين المسجد الأقصى في نيسان/ أبريل الماضي، وازدياد وتيرة هدم منازل الفلسطينيين في القدس بحجج واهية، والاستيلاء على بعضها، واقتحام بلدات كثيرة في الضفّة الغربية واعتقال شبابها، وقتل "إسرائيل" في أيار/ مايو الماضي ثلاثة من قادة "الجهاد الإسلامي"، التي قصفت بدورها المستوطنات الإسرائيلية في عملية سمّتها "ثأر الأحرار"، ما دفع "إسرائيل" إلى إطلاق عملية ضخمة ضدّ قطاع غزّة سمّتها "السهم الواقي" قامت خلالها 40 طائرة إسرائيلية بدكّ المدن الغزّيّة وتدميرها، ومرّة أُخرى الكثير من الأطفال يُقتلون، والنتيجة المماثلة دوماً: دماء فلسطينية غزيرة ووقف إطلاق نار برعاية مصرية، لنصل أخيراً إلى عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
وتُبدي المؤلّفة دهشتها ممّا يحدث في بلدها ألمانيا تُجاه الحرب في غزّة، فبدلاً من التعاطف مع شعب غزّة الذبيح يجري التشهير بالفنّان الفلسطيني الغزّي محمد الحواجري واتهامه بـ "معاداة السامية" ويُهان بـ"تقزز" ألماني متغطرس في وسائل الإعلام الحكومية، لأنه رسم صوراً للهجمات الجوّية المدمّرة للجيش الإسرائيلي وعنونها بـ"غرنيكا غزة"، وحتى رسّاماً الكاريكاتور ناجي العلي وبرهان كركوتلي حُوِّلا في ألمانيا إلى أمثلة على "العِداء للسامية".
سياسات استيطانية تتلخّص بهدم بيوت المقاومين وتدمير القرى الفلسطينية تدميراً كاملاً
وتقول باومغرتن: "كألمانية أقف مذهولة أمام الهجوم المتكرّر والمُخجل على الفلسطينيّين المسلوبي الحرّية والقابعين منذ عام 1948 تحت احتلال منافٍ للقانون الدولي، ونظام استعماري استيطاني، والمفروض عليهم العيش في ظلّ تمييز يَصدُق عليه بحسب توصيف جميع مؤسسات حقوق الإنسان الدولية المعترف بها أنه عنصري، وهو أمر فظيع لا يقع ضمن إدراك الطلائع السياسية والفكرية الألمانية، التي تحبّذ حتى عدم الحديث عنه، ومن يفعل فقد يفقد عمله، أو لا يحصل على وظيفة، أو يقع إخراسه بطريقة مبرمجة".
وتستثني المؤلّفة مجموعات قليلة في بلادها من اللوثة التي أصابت الكثيرين، مجموعات صمّمت على التضامُن مع البشر في فلسطين: من "باكس كريستي" مرورًا بـ "بيب"، و"الصوت اليهودي من أجل السلام"، وأطفال اللّاجئين في لبنان، ومجموعات التضامن الألمانية - الفلسطينية، وأخيراً والأشد أهمية، شباب فلسطيني وُلد وترعرع في ألمانيا، على سبيل المثال: "فلسطين بتحكي".
تقول باومغرتن، التي عاشت ردحاً من الزمن في القدس المحتلّة، إن كتابها هذا كان وليدَ التأثّر بمقاومة الفلسطينيّين الذين عانَوا طويلاً من عنف الاحتلال والتطهير العِرقي في المدينة، وردَّ فعلٍ على حرب "إسرائيل" ضدّ أهالي قطاع غزّة وحجره وضدّ الضفّة الغربية.
وتضيف الكاتبة الألمانية أن مقابلة قصيرة مدّتها أربع دقائق أَجرتها مع قناة التلفزة الألمانية الثانية في 12 أيار/ مايو 2021 كانت كفيلة بتعليمها الكثير من الأشياء الجديدة عن البلد الذي وُلدَت وترعرعت فيه، فتفاعلُ عشرات الآلاف من المواطنين الألمان الذين يدينون بالإسلام عبر إرسالهم رسائل شكر إلكترونية فاجأها ولم تكن تتوقّعه، بخاصة شعورهم بأن مقابلتها كسرت ما كان اعتياديّاً وعُرفاً سائداً، لما تضمّنته من توجيه شخص في التلفزيون الألماني نقداً صريحاً لظلم الاحتلال الإسرائيلي، وتصويره فلسطينيي القدس أناساً عاديين، واستنكاره منْعَ الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيّين من الاحتفال بأعيادهم، ونقْله مبلَغَ الإهانة التي يسبّبها العنف المُمارس ضدّهم من حرَس الحدود الإسرائيلي في باحة الحرَم الشريف وطرق مقاومته.
وتشير باومغرتن أيضاً إلى شكوى المواطنين المسلمين وشعورهم بالإهانة من النظر إليهم في ألمانيا بوصفهم أناساً من الدرجة الثانية، ووصمهم في وسائل الإعلام بـ"المتطرّفين"، وإلى أنهم لا ينتظرون من دولتهم سوى احترام كرامتهم الإنسانية والاعتراف بها. وتلخص باومغرتن المغزى من تأليفها "لا سلام لفلسطين" بأنه جوابٌ عن كلّ ما مرَّ ذكره.
تدور فصول الكتاب حول استعراض تاريخي لمسيرة الفلسطينيّين نحو التحرّر، بدءاً من التظاهرات وتصرّفات قوات الأمن الإسرائيلية الوحشية تجاهها، إلى عمليات هدم بيوت المقاومين، أو سيطرة المتطرّفين اليهود عليها، أو حتى تدمير القرى تدميراً كاملاً، كقرية خربة حمصة البدوية في غور الأردن عام 2021، أو حصارها بالمستوطنات، من دون أدنى نظر من السلطات الإسرائيلية إلى "اتفاقية جنيف" الرابعة، المُلزِمة بحماية المدنيّين في ظلّ الاحتلال وبعدم تدمير ممتلكاتهم.
وتشير فصول الكتاب إلى الاستعراضات المسرحية بين الحكومات والسلطة القضائية في "إسرائيل"، بحيث تُصدر الثانية قراراً بإخلاء مستوطنة فتتقاعس الأُولى عن تنفيذه ويُنسى مع الزمن. ويتعرّض الكتاب لوقوف السلطات موقف المتفرّج من اعتداء المستوطنين، والتشدُّد البالغ في معاقبة الفلسطينيّين لأدنى شُبهة، في حين تصدر أحكام مخفّفة جدّاً على المستوطنين المتورّطين في قتل فلسطينيّين.
ويتطرّق الكتاب إلى محاولات السلطة الفلسطينية إضعاف شعبية حركة حماس والدعوة إلى النضال السلمي الذي لا يُضعِف التنسيق الأمني مع الاحتلال، في وقت لم تتّبع السلطة هذه السلمية مع معارضيها، ويوضح الكتاب سير الكيان الصهيوني بسياسته ذاتها منذ احتلال فلسطين، المتمثلة بالاستعمار الاستيطاني والتطهير العرقي واستخدام العنف مع الضفة الغربية وغزة، إذ لا توازن رعب يحكم الصراع معهما كذاك الموجود مع "حزب الله" في لبنان.
ويتناول الكتاب أيضاً ما أثارته "حركة مقاطعة إسرائيل" التي أصبحت محل جدل شديد في الفضاء الألماني بجهدِ أكثر من 170 منظمة ونقابة، وكذلك حملة التشهير بحرب "إسرائيل" على غزّة عام 2014 التي قادها البطريرك ميشيل صباح، بطريرك الروم الكاثوليك في القدس سابقاً، في مقابلة مع "صحيفة لاستامبا" الإيطالية، إذ اعتبر صباح ما يحدث في غزة "مجزرة لا تقرِّب الأمن لإسرائيل خطوة واحدة"، وأن "الطريق الوحيد للخروج من دوامة العنف هو الاعتراف بالاحتلال، وبدولة فلسطينية حرة ومستقلة".
هلغى باومغرتن، باحثة ألمانية عملت أكثر من خمسة وعشرين عاماً أستاذة للعلوم السياسية في "جامعة بيرزيت". وقد عملت سابقًا في "الجامعة الأميركية" ببيروت، و"جامعة غوتنغن"، و"جامعة برلين الحرة". لها العديد من المؤلفات عن تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية بعد النكبة وسياساتها، إضافة إلى الهجرة العمّالية في الشرق الأوسط. من مؤلّفاتها المترجمة إلى العربية: "من التحرير إلى الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1948 - 1988" (2006)؛ و"جمهورية ألمانيا الاتحادية والفلسطينيون والشرق الأوسط" (2009).