هيربيرتو هيلدير.. الشاعر المختفي في التخوم القصوى

11 نوفمبر 2022
هيربيرتو هيلدير
+ الخط -

قبل سبع سنوات رحل الشاعر البرتغالي هيربيرتو هيلدير متخفيّاً، تماماً مثلما اختار أن يعيش. يرى العديد من النقّاد أنه أهمّ شاعر برتغالي في النصف الثاني من القرن العشرين، بعدما شغلَ النصف الأوّل مواطنُه فرناندو بيسوا. 

وهناك مَن يذهب أبعد من ذلك، مثل الشاعر الإسباني أنطونيو غامونيدا، الذي يقول عنه: "أظن أن هيربيرتو، وهو صديقٌ صعب، كان وما زال يُعتبر أهمّ الشعراء المعاصرين في أوروبا، على الأقلّ. في قصائده، وهي ثمار صعبة وباهرة للعين حدّ العمى، لا تجد فيها اللاواقع ولا الواقعية؛ كلّ شيء واقعٌ عميق جدًّا، ذاك الذي لا يمكن أن يتحقّق إلّا في الشعر".

وُلد هيربيرتو هيلدير عام 1930 في فونشال بجزيرة ماديرا البرتغالية، ورحل في كاسكايس، غرب لشبونة، في ربيع 2015، بعدما اختار العيش، خلال العقود الأخيرة، بعيدًا عن الأضواء. ولم يكن خلال هذه السنوات يرفض المقابلات الصحافية والصور أو الجوائز فحسب (رفض، مثلًا، عام 1994، "جائزة بيسوا"، أهم الجوائز الشعرية في بلده، طالبًا منحها لشاعر آخر!)، بل وحتى توزيع كتبه الشعرية ونشرها على نحو واسع، حيث اختار لها أن تصدر في طبعة واحدة فقط وبنسخ محدودة.

ابنةٌ هي الكلمة التي تقتلعُها من القواميس حين تنام

تمتدّ تجربة هيلدير لأكثر من نصف قرن، وتتميّز أعماله بتأمّلاتها الدقيقة، وتصاويرها العميقة، وبرؤيتها الفلسفية المتفرّدة. صدر ديوانه الأوّل "الحب في زيارة"، عام 1958، في حين لن تظهر مجموعته الشعرية الأخيرة "قصائد اليد اليُسرى"، إلّا شهرين بعد رحيله. وتُعَدّ مجموعة "الموت بدون مُعلِّم" ــ وهي آخر ما أصدره خلال حياته (2014) ــ من أبرز أعمال هيلدير، إن لم تكن "تحفته"، حيث يصفها خوسيه لويس بويرتو، أحد مترجمي هيلدير إلى الإسبانية، بأنها "شهادة هيربيرتو هيلدير الشعرية".

هنا ترجمةٌ لقصائد من "الموت بدون مُعلِّم".


اسمُك الجديدُ، بدأتُ أقتلعُه بِسِكِّينٍ
مِنَ الخشبِ السَّميكِ
ولم يكنِ الحرفُ الوحيدُ يخرجُ ولا مَرَّةً بَعْدُ
حَتَّى الدَّاخِلِ.
وها كُلُّ يَدِي كَانتْ تنْزِفُ
ونُدبةُ الجُرحِ حول الأصابعِ،
والحرفُ وأفضلُ ما في دمي والنسغ
كلّ ذلك كان يندسّ عبر الجرح، كما لو كان هو ذاته
عملي بكثيرٍ من العَناءِ.
دمٌ كان يقطرُ تحت المعصمِ ويجِفُّ:
العملُ الخاصُّ بالكتابة -
آه متى أبلغُ يدًا تصلُ بدمٍ وجهدٍ
العمقَ النِّهائيّ لبدايتك تلك.
اسمٌ أرضيٌّ،
ذلك: شيءٌ معشوقٌ جدًّا حينَ البهجةُ
القاتلةُ لنهايةِ العُمْرِ هذه:
أتكونُ سُلطة ما، بعدُ،
ستجتاحني
أو
تكتسحُني؟


■ ■ ■


قويّةً جدًّا كانت تلك القصائد، حدَّ أنها نجتْ من اللسان الميِّتِ، 
تلك القصائد القليلة حول ما يعذبني اليوم، حِقَبًا وقرونًا وألفيّاتٍ،
وتَهْتَزُّ،
وما بين الأشياء التِقنية في الشُّقَّةِ،
مذياعٌ وتلفازٌ وهَاتِفٌ نقَّالٌ،
وساعاتٌ يَدويَّةٌ،
تضايِقُنِي حتَّى أعترفَ هكذا بِذكْرِ حقيقتِهَا الأخيرةِ
عَنْ مَوتِ الجَسَدِ،
بالكَادِ يَقولون: مِثل ترابِ الأرضِ الذي لا يتَنَفَّسُ،
وذاك شيْءٌ غَير صحيحٍ، وإذاً فأنا سأتوقفُ عن التَّنَفُّسِ
فَوقَ تُرابِ الأرضِ الذي يتنفَّسُ،
ما بينَ القصيدةِ السومرية وهذه، ذاتِ النَّفَسِ القصيرِ،
لكِنَّها رُبَّما تتنفَّسُ فِي يَومٍ،
أو يَومينِ، أو ثلاثةٍ أكثر:
أمَّا بخصوصِ الأشياء السُّومريَّة: يَدا الفتاةِ،
شَعْر الفتاة النحيلة،
الضَّوء الذي كان يرتعشُ داخلها،
كُلُّ ذلك يستديمُ في داخِلي على امتداد ألفياتٍ،
لذلك، آهٍ، أجل، أنا حيٌّ وبَعْدُ ما زلتُ أرتَعِشُ. 


■ ■ ■


الأبناءُ ليسوا شيئًا بالنسبة لك، لحمُ جسدك هو القصائد
التي كتبتها ضدّ كلّ شيء، الآباء والأبناء،
المكان والزمان،
الابنة هي التي تتعرّى من رأسها إلى أخمص قدميها،
وهي تضيِّعُ أصابعها في المفاصل التي بها زغبٌ أسفل الشَعر،
وفقط لرغبةٍ تدفعك لأن تحيا أو تموت من أجلها،
رغبة في أن تكون حفنة الرَّمادِ ذاتها
التي تُلقى في زبَدِ أقاصي الأرض،
ابنة هي الكلمة المشحونة التي تقتلعُها من القواميس حين تنامُ،
تلك الكلمة اختارتك وأنتَ اخترت السطور المبحوحة
حيث يجب أن يكون لديك العمل الحِرَفِيُّ للموت:
ما تبقّى من الكُلِّ يمكن أن يكون شهادة شاردة ولا شيء أكثر،
وأنتَ، أجل، تمضي ناسجًا سعادتك وتراها تُنْسَجُ خلفك،
وهذه العناية تُضيء مفاصل أصابعك
والشَعر كلّه، حتى البراجم التي تحته
- الموت يجعل جسدك مفصلًا يتدبَّرُ الأمورَ وينطفئ،
وأنت تنظر بين الأشياء الصغيرة
وحيثما تنظرُ، يبقى ذلك الجزء مُضاءً كُلَّهُ.


■ ■ ■


بين الأسماء الأشدِّ حميمية والأكثر كثافة على الإطلاق
لأيِّ الأيام القابلة للموت ينفثُ الحياة
والشيء الذي لا يمكن الدفاع عنه، يَعِدُ بِهِ
(لكن في جسده لا شيء ينهضُ
حين يرتجُّ هواءُ الاضطراب)
أي موت وحياة يغيّرهما في كل شيء
وإلى أي مَجْدٍ مُعتِمٍ يُشيرُ؟


■ ■ ■


الآن فقط أفكّر:
لماذا لم أنظر أبدًا حينما كنت أعبُر أمام ذاتي نفسها؟
هل لئلّا أرى كَمْ كان قليلًا الضوء الذي لديَّ في الداخل؟
أم النشيج الذي أعْبُرُهُ في الوجه العجوز الغاضب،
الآن حين أفكر في الأمر وأرى حتى دون مرآة؟
- مائة عامٍ أو خمسمائة أو ألف عام تلتهمها المرآة
العميقة والقديمة والمُرّة:
وأفكّرُ أن مجرد النظر الآن أو عدم النظر، في نهاية المطافِ 
هو الشيء ذاته


■ ■ ■


أبنائي الحقيقيون الذين غيّرتُ فيهم الجسدَ البائس
مع الاهتزاز الذي يسمّونه روحًا،
والضَّوء بِاسْمٍ مجهولٍ،
أبناءٌ أحياءٌ بِقُوَّةِ الألم وشرط العبودية،
أحياءٌ مثل مَنْ ينتظر يومًا ما ليموتَ أكثر،
أو بشكلٍ أسرع،
أو بشكل أبطأ كما يحدث دائمًا لِمَن ما زال بعدُ ينتظرُ:
قصائد
أودّ أن أقول بالذيل، مخبّأً مع القطّ في الخارج،
بخار الصيف في الهواء حيث يدخل الأشخاص،
والقِطَطُ تنامُ وتستفيقُ بشكلٍ غامضٍ،
وبين النوم واليقظة لا تحلم بنفسها سوى في حشد من القطط،
قصائد مثل قطط بلا بيتٍ يروقُ،
واحد مع آخرين،
الصيف والشتاء في العالم الآن
جدُّ متحرِّرٍ، جِدُّ صَعْبٍ،
حشدُ قططِ القصائد: بلا سيِّدٍ وبلا سمكةٍ مُؤكَّدَةٍ:
فقط المطرُ والطقسُ الرَّائقُ
والحُبُّ والكراهية في اندفاعٍ البعض ضدَّ البعض:
قصائد عندما تمضي مع اليد
وتنفخ في غيظٍ وتخدشُ على التَّوِّ.


■ ■ ■


لو في يوم من هذه الأيام، لا أعرف كيف أتوقّف، لو أموت للتوِّ
ــ قالت إيميليا دافيد، الخَبَّازَة ــ
لستُ أدري إن كان صُنع قصيدة شيئًا آخر غير صُنع رغيف خبزٍ
رغيف خبز يتمّ إخراجه من الفرن ويؤكَل ساخنًا بعد ما زال ما بين السطور،
في يوم من هذه الأيام أرى أنني لن أتوقّف أبدًا،
اليدان ممتلئتان بغتة:
العالم نارٌ وشمسٌ وخبز ناضج،
والنارُ هي التي تمنحُ العالمَ أُسُسَ الشَّكلِ،
خبزٌ ينمو في أراضي فرنسا،
خبزٌ قليل الآن في هذه الممالك المالحة،
إنْ كنتُ لا أعرف كيف أتوقف وإن كنتُ لم أسقط فورًا هناك 
مُكَوَّرَةً على الأرض الباردة
كما لو أني قد وقعتُ في أعماق ذاتي نفسها،
اليد داخل الخبز لكي آكُلَه،
قالت.


■ ■ ■


أراد أن ينغلق على ذاته بالكامل في قصيدةٍ
منحوتةٍ في لغة هي في الآن ذاته جَليَّة وممتلئة
قصيدة في نهاية المطاف تسعُ الأصابع العشرة
من العرناس إلى المغزل
لكي يبقى مكتوبًا هنالك في الداخل، يمينًا ويسارًا.
أريد أن أقول: كُلُّ شَيءٍ
حيًّا وَمُحْتضرًا ومَيِّتًا
ظِلُّ العناصر في الأعلى.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون