تشتهر إسطنبول في التاريخ بـ الحرائق والزلازل؛ هناك حرائق دمَّرت أحياء كاملةً وثروات عشرات الآلاف من الناس والعديد من الآثار الفنّية. وكان تدمير الزلازل أقلّ، إذ اهتزَّت بعض الجوامع، مثل "جامع الفاتح"، ودُمِّرت بعضها وأُعيد بناؤها. ومع ذلك، انهار "آيا صوفيا" مباشرة بعد بنائه، وظلَّت آثار الهزَّات الأرضية عليه بعد ذلك، لكنه بقي حتى اليوم بتدخّل من المعماري سنان وبناء الدعامات التي يُفتخر بها.
في واقع الأمر قام المهندس المعماري ببناء "جامع كيليتش علي باشا" كنموذج لـ"آيا صوفيا"، مع الدعامات. لم تؤثّر أيّ كارثة طبيعية على مناطق داخل السُّور وغَلَطَة بقدر ما أثّرت حركة إعادة الإعمار عام 1956. يمكن القول إنّ هذا الإعصار التاريخي الممتدّ لأربع سنوات دمَّر حضارتنا القديمة، وقد بدأ بنوايا حسنة وتحوّل إلى شغف جاهل، وعلى عكس ما يقول البعض، لم يقتصر الأمرُ على جهل "ساسة الأناضول" فحسب، بل جهل المعماريّين المُطّلعين أيضاً في إسطنبول.
كأنَّ بعض الآثار قاومت هدمها
في الأعوام الخمسين الماضية تسبّبت هذه السمفونية التي لا تنتهي من التدمير الثقافي لإسطنبول بتغييرها السريع والقبيح، في نهاية متاعب الحرب العالمية الطويلة. انتشرت الرغبة في التخلُّص من المدينة الخشبية التي يعود تاريخها إلى قرون، ليس فقط في أواخر عصر الراحل عدنان مندريس، ولكن أيضاً في دوائر "صحيفة جمهورييت"، التي كانت تنتقد مندريس في أوقات أُخرى. أتذكّر فريق الموظّفين الذين كانوا يشاهدون تجريف النسيج التاريخي خلف التمثال بمنطقة أولوس في أنقرة.
لم يتحوّل هدم وإنشاء بعض الشوارع، من قِبَل الوالي ورئيس البلدية الراحل لطفي كِردار في الأربعينيات، إلى حركة إعمار واسعة النطاق بسبب عدم وجود الأموال الكافية. من ناحية أُخرى، حدث الإعمار في عام 1956 بأقصى سرعة، حيث تمّ تخصيص مبالغ كبيرة من الميزانية، مع نقل رئاسة الوزراء إلى إسطنبول. بصراحة، كانت تركيا في ذلك اليوم، على عكس اليوم، تكره القصور الخشبية، والمدرسة الابتدائية الحجَرية الواقعة بين شارع وجامع محاطٍ بأشجار السرو، والمقابر والأرصفة المرصوفة بالحصى في الشوارع الضيّقة.
لم تفعل الزلازل ما فعلته حركة إعادة الإعمار في الخمسينيات
لا أحد يعرف أي مكان من أماكن التراث التاريخي، باستثناء "السليمانية" و"السلطان أحمد". كان فهم رئيس الوزراء للإعمار مدعوماً حتى من قِبَل كبار المعماريين في ذلك الوقت. ومن أهم هؤلاء، سادات حقي أَلْدَم. وكان الآخرون صامتين، طرُقٌ واسعة وبنايات مكعّبة وترميمات لبعض الآثار... حتى هذا القدر كان كافياً لهدم هؤلاء "السادة" لإسطنبول في ذلك الوقت، وحتى إن كريمة نادر أشادت بحركة الإعمار في رواياتها. وكان ناس ذلك الزمان يخجلون أمام الأجانب، من الشوارع الضيّقة، حيث تتقدّم عربات الترام أسفل جدران المنازل. اليوم، يشاهد الأتراك الذين يذهبون إلى لشبونة، بحنين شديد، عربات ترام تمر من أسفل الجدران.
لم يتحدّث أحدٌ عن خُطط الانتقال إلى خارج السُّور في إسطنبول، وهَدمت آليات "كاتربيلر" القصور والأسبلة العامة والمدارس الدينية حول الجوامع. قاومت بعض القطع الأثرية، والذين لا يستطيعون رفع أصواتهم معترضين، تحدّثوا عن "وجود ضريح ومقابر". "قصر البلدية" القبيح، على رأس منطقة "سراجهانه"، والذي ما يزال بعض المهندسين المعماريّين لدينا يعتبرونه "إنجازاً لعمارتنا الوطنية"، هو مثال على هذا الدمار الوقح. في ذلك الوقت، كان هذا المبنى غير المتناسق مغطّىً بالفسيفساء، ويطلّ على "مدرسة أنقراوي محمد أفندي"، وينافس "جامع شيخ زاده باشي"، لكنّه تصدَّع في الزلزال الأخير. لدينا دائماً الميزانية اللّازمة للعمليات غير الضرورية، وقد عزّزنا هذا البناء القبيح بالفولاذ، وقمنا بتسجيله كنصب تذكاري وطني.
مهندسنا الوطني، الذي دعم هذا التطوّر المعماري المجنون، قام بتغيير استواء شارع أوردو، بحيث يُظهر عمله الخاص، وهو مبنى كلية الآداب. ونتيجة لذلك، صارت "مكتبة كوجا راغب باشا" في منتصف الطريق، وفي نفس الشارع تمّ تقليم واجهة "سيمكشهانه". وأثناء ذلك ظهرت بعض الآثار الرومانية التي تعود إلى القرنين الرابع والخامس، لكنّهم تجاهلوها. تم هدم "حمّام جامع مراد باشا" عند تقاطُع شارعَيْ وطن وميلت بأكساري.
المسجد نفسه أُنقذ بصعوبة، ودُمِّر "مجمّع كمنكاش قره مصطفى باشا" الرائع، والذي يعود إلى القرن السابع عشر في تشارشي قابي، بالكامل، مع سبيل ومدرسة وقبر. وتُمكِن هنا قراءة مقال أحمد وفا تشوبان أوغلو بإهداء إلى يلديز دميريز هوجا.
اختلطت الدموع بالإسمنت
رأيتُ كيف هُدم "سبيل قره أحمد باشا" التذكاري الضخم في طوب قابي. كما هُدم "حمّام جامع سنان باشا"، العمل الشهير للمعماري سنان، من أجل عمل شارع بارباروس المُشجَّر في بشيكتاش. وفي سراجهانه، أثناء بناء البلدية، هدموا القسم الذي يقولون عنه الغُرف الجديدة، وهي من قسم "ثكنة الصبيان". وهدموا أيضاً "مركز شرطة شيخ زاده باشي"، الذي عانى من الاحتلال الاستبدادي الثاني لإسطنبول في آذار/ مارس 1920، وهُدمت البيوت الخشبية التي عاش فيها سكّان إسطنبول المتواضعون. نتذكّر أن بعض هؤلاء الناس كانوا في ذهول، والبعض الآخر اختفوا وعيونهم تدمع، دون أن يُعرف إلى أين ذهبوا.
بدل القصور الخشبية التراثية جاء المعماريون ببنايات مكعّبة
أثناء بناء البلدية اختلطت دموعٌ كثيرة بالإسمنت، فُكّك "جامع مرزيفونلو قره مصطفى باشا"، وكان من المفترض أن يُنقَل إلى مكانٍ آخر. وغنيٌّ عن القول أنّ الأحجار المرقّمة قد ضاعت، وخلال أربع سنوات، هُدمت خمسة جوامع للمعماري سنان. وباستثناء بعض عشّاق إسطنبول مثل سماوي إييجا، لا يعرف الكثير من الناس الكثير عن عملية الإعمار، وإذا كان هناك مَن يعرف، فلن يكون بدرجة ذلك الجنون في الإعمار، بل سيكون حقّاً إعماراً محسوباً، وهذا صحيح لليوم أيضاً. الناس غير مهتمّين، وهناك مَن يعملون في الإعمار بالجشع والنية الخبيثة.
يستمرّ جنون الإعمار إلى الحدّ الذي يجعله بعيداً عن انتباه الناس، تُهَدّ المقابر وتُسرق شواهدها، كما هو الحال في بلاط وفنار، تُهَدُّ البيوت الخشبية والمباني الحجرية القديمة التي تعود إلى القرن السابع عشر، والأعمال المعمارية الكلاسيكية تحيطُها المباني العالية والقمامة. ومن الأمثلة على ذلك، المنظر القبيح بين إيمينونو و"جامع السليمانية" وبين أونكاباني أو المباني الإسمنتية في فِنْدِقلي وأَياس باشا.
* فصل من كتاب "حقائق التاريخ التركي الحديث" الذي صدرت نسخته العربية حديثاً بترجمة أحمد زكريا عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"
بطاقة
تتنوّع انشغالات المؤرّخ التركي إلبَر أورطايلي (1947)، حيث يهتمّ بتاريخ المدن والمؤسّسات، والتاريخ الثقافي، بالإضافة إلى دراساته حول الدبلوماسية. معروفٌ عنه معرفته لغات عدّة من بينها العربية. له مؤلّفات في حقول شتّى، من بينها: "التاريخ الإداري لتركيا" (1979)، و"التأثير الألماني على الدولة العثمانية" (1980)، و"صفحات من إسطنبول" (1986)، و"السلام العثماني" (2004)، و"كيف يبني الإنسان مستقبله؟" (2007).