مِن الفلاسفة مَن تبدو أعمالهم وكأنها تتوجّه إلى جمهور معيّن فحسب، بحيث لا يمكن لغير الملمّين بالعدّة الفلسفية أن يفهموها تماماً، كما هو الحال، مثلاً، مع أرسطو أو كانط؛ ومنهم مَن تتحوّل الفلسفة بين أيدهم إلى قضية عامّة، شديدة الملموسية، حيث يتناولون مواضيع حياتية تخصّ أي فردٍ.
تنتمي أعمال الفيلسوف الرواقي، سينيكا (4 ق.م ــ 65 ب.م) إلى هذا النوع الثاني من الاشتغالات الفلسفية، حيث تناول، في قراءة أصيلة، أسئلة مثل السعادة، والاكتفاء، والحكمة، والغضب، والمنفى، والموت، وعمل الخير، والكسل، وغيرها من المواضيع التي تجعل منه، حتى اليوم، واحداً من أكثر الفلاسفة القدماء مقروئيةً لدى الجمهور الكبير.
عن منشورات "كلاسيك غارنييه" في باريس، صدرت حديثاً ترجمةٌ فرنسية لكتاب "مدخل إلى قراءة سينيكا"، وهو عملٌ نشره باللاتينية، عام 1586، المفكّر الفرنسي هنري استيان (1528 ــ 1598)، ما يعطي صورةً عن الاهتمام المبكّر بأعمال الفيلسوف الرواقي الذي أُعيد اكتشافه في أوروبا خلال القرن الخامس عشر.
يتوزّع الكتاب على اثني عشر فصلاً تشرح فلسفة سينيكا بشكل خاص، ومبادئ الفلسفة الرواقية بشكل عام، ولا سيّما في الأخلاق، حيث يصف المؤلّف نظرة الرواقيين إلى الخير والشر والفضيلة والعواطف والمصير وغيرها، مع تركيز على مسألة السعادة، التي يرى أنها تشكّل حجر الأساس في البناء الأخلاقي الرواقي.
ولم يكن نشْرُ كتاب عن فلسفة سينيكا، ومدحها، خلال فترة النهضة الأوروبية، بالأمر الاعتيادي كما قد يكون الحال عليه اليوم، حيث كان يمكن لصاحب "في قِصَر الحياة" أن يبدو بعيداً عن الصورة الجدّية والصارمة التي كانت تُنتظر من المفكّر خلال الفترة التي ألّف فيها استيان كتابه.
وإلى جانب شرْحه لفلسفة سينيكا، يعطي استيان خلفية كافية عن حياته والسياق الذي عاش فيه، كما يقوم بمقارنة مساره، وفلسفته، بمسارات وفلسفات مفكّرين آخرين، ضمن قراءة مقارَنة كانت جديداً في فترة النهضة.