هموم شعرية: مع شوقي عبد الأمير

01 سبتمبر 2021
شوقي عبد الأمير
+ الخط -

■ من هو قارئك؟ وهل تعتبر نفسك شاعراً مقروءاً؟
قارئي؟ لا أدري. بالتأكيد لا بدّ أن تتوفر بيننا منطقة وسطى مشتركة لكي نلتقي. لا نلتقي لمجرد الرّغبة في قراءة الشّعر وحتّى في حب الشّعر. الأهمّ هو وجود هذه المنطقة المشتركة، وأصبحت جزءاً من تكوينه الثّقافي بالإضافة إلى الحسّ الفطريّ. وفيها يجب أن يتوفّر حد أدنى من بعدٍ معرفيّ وسليقة فطريّة، وصدفة أيضاً. هذه المنطقة هي المُهمّة وهي المكان الّذي نختلفُ فيه ولا يفسد الاختلاف في الود قضية كما يُقال، وفيها يصير الإعجاب حالة ثقافيّة لا مجاملة ولا محليّات أو صفقات. لا أدري إن كنت مقروءاً بالمعنى العام. أتذكّر حادثة مهمّة حصلت لي عندما حاولتُ أن أنشر أوّل ترجمة لشعري بالفرنسيّة. أرسلتُ الدّيوان إلى ناشر يساريّ، هو ناشر أراغون وبعد فترة لم أحصل على جواب. قصدتُ النّاشر لأستعلمَ منه، فأجابني أنّ الدّيوان جميل ويدلُّ على شاعريّة ولكنّني لا أقدر أن أنشره. قلتُ لماذا؟ هنا نادى على سكرتيرته وطلبَ منها أن تأتينا بملف آخر ديوان لأراغون. جاءت السكرتيرة لتقول لنا إنّ الديوان الّذي صدر منذ عام باع ستمائة نسخة فقط. أضيف فقط أيضاً أنّ غاليمار أهمّ دار نشر فرنسيّة عندما تطبع دواوين شعر لأهم الشعراء الفرنسيين ومن العالم، لا يتعدّى عدد كل إصدار شعريّ الألف نسخة. أي أنّها بمعنى ما تحاول الحفاظ على هذا النوع الأدبي من الانقراض. 

■ كيف هي علاقتك مع الناشر، هل لديك ناشر وهل هو الناشر الذي تحلم به لشعرك؟ 
علاقتي طيبة مع جميع الناشرين الذين نشروا نصوصي ونحن نفهم بعضنا. أنا أعلم أنّ ناشر الشّعر ليس ناشر الرّواية أو الكتاب الديني، ولهذا كل عقودي مع ناشري كتبي تتمّ بالاتفاق المُسبق وأنا لا أطلبُ حقوقاً ولا أسألُ عنها وأحياناً أشتري بعض النسخ التي أحتاجها لتوزيعها على الصّحافة والأصدقاء. ويمكنني أن أضيف أنَّ ناشري الشّعر في البلاد العربية لا يخسرون بل يكسبون وإلّا لتركوا نشر الشّعر. ولهذا أحذر من تحوّل الأمر إلى تجارة وذلك بالنّشر لمن يدفع أكثر. وهذا ما يحصل حالياً مع الأسف وبشكل ملحوظ. هنا يتحوّل دورُ الناشر من البناء إلى الهدم وتلك هي المأساة.

■ كيف تنظر إلى النشر في المجلات والجرائد والمواقع؟
النشر في المجلّات والمواقع أصبح مشكلة حقيقيّة بسبب فيسبوك والإنترنت. نحن أمام ظاهرة نشر عمياء تتكاثر بشكل أميبي ولا يمكن الوقوف بوجهها. على رؤساء تحرير المجلات والصفحات الأدبية الحرص على عدم الوقوع في فخ هذا الكائن الأميبي الذي يبتلع كلّ يوم مساحة النشر والتواصل مع القراء. أعتقد أن هذا ممكن وعندي تجربة أخيرة في مجلة "بين نهرين" حاولتُ عندما كنت رئيساً لتحريرها أن أقف بوجه هذا المدّ وأظنُّ أنني نجحت إلى حدٍّ ما. السّبب هو الصّرامة ووضوح الرؤية والشجاعة في قول لا. هذا الأمر يتطلب رؤيا نقدية واضحة ومبرّرة عملياً وليس فقط على المستوى النظري.

علاقة العربي بلغته لا تشبه علاقة أيّ مواطن عالمي بلغته

■ هل تنشر شعرك على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف ترى تأثير ذلك في كتابتك أو كتابة زملائك ممن ينشرون شعرهم على وسائل التواصل؟
نعم لدي حساب في فيسبوك أنشر فيه بعض النّصوص لأهمية ذلك. أعتقد أنّ هذا النّشر العابر للحدود والقارات والرقابات أصبح ضرورياً جداً. ويمكنني القول إنّه من أهم  فضائل الفضاء الأزرق المليء بالكوارث. إلا أنّ الأمر صار أكثر تعقيداً.. اليوم كلّ فرد يمكن أن يجمع كلّ أطراف مهنة النشر فيكون الكاتب والمطبعي والمصمم والناشر والموزّع والمروّج وحتى الناقد وهذا غريب. هذه الظاهرة ستأتي على كلّ شيء إذا لم نضع لها حداً. وإلّا سنحتكم إلى القارئ الصامت العظيم حين يقول كلمته ألا وهو الزمن.

■ من هو قارئ الشعر العربي اليوم في رأيك؟
أعتقد أنني أجبت بجزء هام عن هذا السّؤال. ولو أردتُ أن أضيف أقول إنّ الشّعر تطوّر كأي فن وعلم واختصاص، لم يعد مجرد متعة آنيّة للمتلقّي كما يحدثُ للمغنّين. أتذكّرُ أنّ أوجين غيّوفيك، شاعر فرنسا الكبير، كان يقول إنّ الشاعر الجماهيري هو مغنٍّ بالضرورة. لا بدّ اليوم من نخبة خاصّة بكلّ نوع من الفنون والعلوم، والشّعر بالطّبع أوّلها ومن بينها. لا أن تتسلح بأدوات ورموز أي فن أو نوع أدبي تريد أن تدخله. لن تدخل القصيدة حافياً عارياً عن المعرفة. وإلّا جِدْ لكَ مغنّياً يُطرِبُك. 

■ هل توافق أن الشعر المترجم من اللغات الأخرى هو اليوم أكثر مقروئية من الشعر العربي، ولماذا؟
لا توجد إحصائية دقيقة. وكي لا أقع في الخطأ أقول إنّ الشّعر الحديث عربياً يستلهم ينابيعه من الشّعر المترجم. لا ماضي لقصيدة النثر التي تُكتبُ اليوم في الشّعر العربي. هذه حقيقة. إنّ مرجعيّة قصيدة النثر هي الشّعر العالمي. بهذا المعنى إنّ انتصار وشيوع هذه القصيدة يؤكّد دور وحضور الينابيع التي تصدر عنها. هذا الأمر لم يفصح عنه النقد بعد. قصيدة النثر لا تشبه أيّاً من الأنواع الأدبية التي ورثناها. آباؤها رامبو وبودلير ووايتمان وباوند وغيرهم. يجب أن نقرَّ بهذا. تماماً مثل التكنولوجيا. الآيفون ليس عربياً. الحداثة الشعريّة هي الأخرى. 

يتحوّل دَور الناشر من البناء إلى الهدم وتلك هي المأساة

■ ما هي مزايا الشعر العربي الأساسية وما هي نقاط ضعفه؟
أهم مزايا / عقبات الشّعر العربي هي العلاقة مع اللّغة. علاقة العربي بلغته لا تشبه علاقة أيّ مواطن عالمي بلغته. كلّ اللّغات اللّواتي عمّرت مع العربيّة ماتت (اليونانية القديمة، اللاتينية، النبطيّة، السريانية والعبرية) إلّا العربية ما زالت تقاوم لأسباب نعرف بعضها كالقرآن ولكن ليس فقط - ببساطة هذا الموضوع يحتاج أن نفرد له حواراً - على أيّة حال أوجدت هذه العلاقة المعقدة والمضطربة بين الفرد العربي ولغته نوعاً من الإرباك للشّاعر بالأخص لأنّه الوحيد الذي مهما فعل في الحداثة يظل جنيناً داخل اللّغة. لا ننكر هناك محاولات جادة لبعض الشّعراء الذين خلقوا مساحات لغوية خاصة بهم مثل نزار قباني في الشّعر العمودي والماغوط في قصيدة النثر. لكن هذا لم يكن دون نتائج سلبية على دور اللّغة في القصيدة لأنّ لغتهم ظلّت كالوشاح الشفاف ولم تحمل أيّ ظلال وتداعيات وحضور شعري كثيف كما هو الحال لدى أدونيس. أن تمتلك اللغة وتحرّرها ذلك هو التحدّي الشّعري العربيّ الأعظم. أما أن تهرب منها كما يفعل أكثر شعراء النثر فهذا سهل. 

■ شاعر عربي تعتقد أن من المهم استعادته الآن؟
امرؤ القيس. أعظم شاعر عربي. لم نقرأ هذا الشّاعر العظيم كما يستحقّ ولم  يصلنا كلّ شعره، وصلنا القليل النادر. هذه هي المأساة. ولكن يكفي أن نتأمّل بعمق هذا القليل الذي وصلنا لندرك عبقرية شعرية وتحررية حداثوية بالمفهوم النقدي وحتى السريالي لو شئت. وأضيف، يقدّم النثر قبل الإسلام بُعداً شعرياً عالياً يجهله الكثيرون. وقد أوضحتُ ذلك في كتابي الّذي جمع النثر قبل الإسلام لأول مرة في كتاب عنوانه "مجلة لقمان" والذي صدر عام 2006 عن دار الجمل وهذا الموضوع هو الآخر يحتاجُ حواراً منفرداً... لأنّ النثر تمّ محوه عن بكرة أبيه ولم يبق منه إلا الفتات.

■ ما الذي تتمناه للشعر العربي؟
أتمنى للشعر العربي المزيد من المعارف وقراءة التاريخ والعلوم. أذكرُ فقط أنّ رامبو أعظم شاعر فرنسي حديث كان قد قرأ كل المؤلفات باللغتين الفرنسية واللاتينية في مكتبة مدينته شارل فيل حسب شهادة أمين عام المكتبة في مدينته ولم يكن عمره قد تجاوز الخامسة عشرة من العمر.


بطاقة
شاعر ودبلوماسي عراقي من مواليد 1949. أصدر أكثر من عشرين ديواناً شعرياً وكتاباً في السرد والنقد. من مؤلفاته الأخيرة: "في الطريق إليَّ"، و"كتاب نادو" في الشعر، و"جهة الصّمت الأكثر ضجيجاً" (مقالات). تصدر أعماله الشعرية بثلاثة أجزاء هذا الشهر عن "دار خطوط وظلال" في عمّان. كما صدر له بالفرنسية: "مسلّة أنائيل"، و"محاولة فاشلة للاعتداء على الصمت"، وبالإنكليزية "محاولة فاشلة للاعتداء على الموت".

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون