هموم روائية: مع شكري المبخوت

29 اغسطس 2024
شكري المبخوت (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- شهدت الرواية العربية اهتماماً متزايداً في العقدين الأخيرين، لكنها تعاني من ضعف النقد الأدبي الأكاديمي، مما أدى لظهور النقد السريع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
- تلعب الجوائز الأدبية دوراً مهماً في تطوير سوق النشر وتوجيه الأذواق، رغم الجدل حول مصداقيتها، وتساهم في ازدهار فن الرواية وتنشيط سوقها.
- الكتابة عمل فردي، لكن النشر عمل جماعي يتدخل فيه العديد من الأطراف، وورشات تعليم الرواية قد تكون مفيدة لصقل أدوات الكتاب الموهوبين.

تقف هذه الزاوية مع روائي عربي عند أسئلة الرواية العربية اليوم، في محاولة لرسم مشهد الرواية العربية وتشخيص حالها من خلال كتّابها. "القول بأنّ الجوائز أعادت الرواية العربيّة إلى الوراء كلام مبالغ فيه. للجوائز ضمن الجهاز الأدبيّ دور في تطوير سوق النشر"، يقول الروائي التونسي شكري المبخوت لـ"العربي الجديد".



■ كيف تفسِّر ظاهرة الاهتمام بالرواية العربية في العقدين الأخيرين؟

- بدءاً، هذا الاهتمام بالرواية ليس خاصّاً بالقارئ العربيّ. فقد فرضت هذا الملحمة البورجوازيّة نفسها منذ أواسط القرن التاسع عشر، وجذبت انتباه القرّاء العرب منذ أواخر القرن نفسه، حتى قبل أن تظهر الرواية التي كتبها العرب، فقد كان الإقبال على الترجمات التي كانت تنشرها صحف مختلفة في مصر بالخصوص لافتاً للانتباه.

وفي جميع الحالات كان السرد دوماً بقطع النظر عن أشكاله القديمة (الخبر والمثل والمقامة والحكاية... إلخ)، أو الحديثة كالرواية والقصّة القصيرة، مسيطراً لولا هيمنة فكرة موروثة غير مطابقة للواقع مفادها أنّ العرب أُمّة شاعرة. وحتى إذا سلّمنا بذلك فإنّ السرد بحبكاته، وقدرته على التمثيل أداة معرفيّة لفهم العالم، وتنظيم الفوضى وإكساب ما يجري دلالة ما. لذلك أرجّح أنّ التحديد بالعقدين الأخيرين قد يكون انطباعيّاً بسبب ما يتوهّم أنّه فورة في الإقبال على كتابة الرواية.

والواقع أنّ الثقافة العربيّة ما زالت تنتج روايات أقلّ ممّا يُنتج في الثقافات الكبرى. وإذا افترضنا هذه الفورة التي تحدّثت عنها فهي تعني أنّ جنس الرواية يقدّم للكتّاب مجالاً أوسع من الشّعر مثلاً لقول المجتمع والذات، وأن القارئ يجد فيها معرفة ما أدبيّة وغير أدبيّة على الدارسين تحديدها.


■ هل توافق على أنّ الرواية العربية اليوم تسير بلا حركة نقد جديّة توازيها، وهل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي بديلاً عن النقد والنقّاد؟

- ضعف النقد من ضعف العلم بالأدب عند العرب وخصوصاً في الجامعات العربيّة. فالثقافة النقديّة العامّة رغم تطوّرها بفضل تراكم النصوص النقديّة المختلفة في الجامعات والصحف والمجلّات، لم تتجدّد على نحو تمثّل فيه أساساً عميقاً للكتابة عن الأدب إلا في ما ندر.

علاوة على ذلك، يوجد خلط بين البحث الأكاديمي في الرواية من جهة، والنقد الأدبيّ من جهة ثانية. فرغم العلاقة بينهما فإنّ المهام والأطر والمقامات مختلفة. لاحظ أنّ تراجع الصحافة عموماً والصحافة الثقافيّة ضيّقَ منابر الكتابة النقديّة عن الأدب عموماً، والرواية على وجه الخصوص، وهو ما فتح الباب للانطباعات التي نجدها في وسائل التواصل الاجتماعيّ.

ولكنّ هذه الارتسامات قد تكون شكلاً آخر من النقد السريع بيد أنّه لا يعوّض بأي شكل النقد الذي نعرفه ونعترف به. وأرجّح أنّنا ذاهبون إلى تعايش صنفين من "النقد": النقد الأكاديمي الذي يرمي إلى تطوير المعرفة بالأدب إذا كان جدّيّاً في منطلقاته النظريّة ومفاهيمه ومناويله الإجرائيّة، والنقد السريع الانطباعي الذي يعبّر من خلاله القارئ عن تفاعله الآنيّ مع ما يقرأ.


■ هل هناك قارئ افتراضي تفكِّر به أثناء الكتابة أو عند دفع الكتاب للنشر، وما هي ملامح هذا القارئ؟

- شخصيّاً أكتب كما أحب أن أقرأ الأدب. فثمّة شيء ذاتيّ جدّاً. وفي الآن نفسه، أنا الكاتب والقارئ الأوّل لنصّي. ولمّا كانت الكتابة فعل تواصل وتخاطب فإنّ القارئ حتى بملامحه الغائمة حاضر بالنسبة إليّ زمن الكتابة. وشخصيّاً آخذ بعين الاعتبار في ضرب من بيداغوجيّة التأليف أفق انتظاره بالمخالفة او المطابقة ضمن لعبة فنّيّة أُحاور فيها القارئ ضمنيّاً لشدّه وتشويقه وتخييب انتظاره أحياناً عن قصد. 

الثقافة النقديّة العامّة لم تتجدّد لتمثّل أساساً عميقاً للكتابة

■ كروائي من هو فريقك، هل تعتمد على محرِّر أثناء كتابة العمل أو مُدقِّق بعد الانتهاء منه؟

- من البديهيّ عندي أنّ الكتابة عمل فرديّ ينجز في ورشة الكتابة، ولكن النشر عمل جماعي تتدخّل فيه أطراف عديدة. فلي أصدقاء أثق فيهم يطلعون على المخطوط ويبدون آراءهم التي أعتمدها في التحرير أحياناً. ولي محرّر أدبي فذّ هو ناشري حسن ياغي، أصغي إلى ملاحظاته بانتباه. ويدقّق نصوصي زملاء عديدون ورغم ذلك تمرّ بعض الأخطاء البسيطة. عموماً الرواية المنشورة لا يمكن أن تكون هي نفسها، ولو بدرجات متفاوتة، الرواية المخطوط قبل أن يطلع عليه هؤلاء.


■ ما هي علاقتك بناشرك وإلى أي درجة تعتبره شريكاً؟

- من حسن حظّي أنّ علاقتي بناشري ومحرّري الأدبيّ علاقة صداقة قويّة تقوم على التفاعل الفكري والحوار والثقة والاحترام والمودّة. قد أكون محظوظاً في هذا. ولكنّني أتنازل له في أحيان كثيرة عن نرجسيّة المؤلّف لثقتي في رأيه ومعرفته بالأدب الروائيّ ورحابة ثقافته الأدبيّة. وهو يترك لي بدوره حرّيّة الأخذ بمقترحاته أو ردّها. وأنا مدين له في هذا بالكثير.


■ تثير جوائز الرواية جدلاً بين من يشكّكون بمصداقيتها وجدِّية القائمين عليها معتبرين أنها أعادت الرواية العربية إلى الوراء، وبين من يعتقدون أنها تساهم في ازدهار فن الرواية وتنشيط سوقها في العالم العربي؛ كيف تقرأ هذا المشهد وكيف تتعامل معه؟ 

- الرأيان يجدان من المؤيّدات ما يؤكّدهما مبدئيّاً. لا أميل إلى مثل هذا الجدل العقيم. شخصيّاً شاركت في تحكيم بعض الجوائز المحلّيّة التونسيّة والعربيّة، وأعرف أنّها تتفاوت من حيث المصداقيّة والجدّيّة، ولم أتوان عن رفض ما يسيء إلى الجوائز مهما كانت ممّا لا يعرفه القرّاء داخل اللجان كلّما وجدت قلّة نزاهة. غير أنّ صدقيّة اللجان من صدقيّة أعضائها والقائمين عليها. لكن القول بأنّ الجوائز أعادت الرواية العربيّة إلى الوراء كلام مبالغ فيه، بل كاذب. فألّا يحصل روائيّ ما على جائزة حتى إن افترضنا انّه "ظلم" لا يعني أنّ الرواية العربيّة تخلّفت بسبب تجاهل نصّه العبقريّ؛ فيلجأ إلى تحريك شبكة علاقاته للضغط الإعلامي المريب، وتسريب الإشاعات والنميمة في الوسط الأدبيّ ليشكك في الجوائز ولجان التحكيم. المعادلة بسيطة: إذا كنت ترى الأمر على هذا النحو فامتنع عن المشاركة في الجوائز التي تعتقد انّها بلا مصداقيّة وغير جادّة. ومن ناحية أُخرى للجوائز ضمن الجهاز الأدبيّ دور فعلاً في تطوير سوق النشر، وحتى توجيه الأذواق.

السرد أداة معرفيّة لتنظيم الفوضى وإكساب ما يجري دلالة ما

لكن لا ننسى أنّ الممارسة الإبداعيّة هي المنطلق، ولا أعتقد أنّه يوجد نصّ حقيقيّ تحطّ من قيمته الجوائز أو تمنحه مكانة فوق ما يستحقّ إلا نادراً. فنتائج الجوائز في نهاية الأمر ضرب من القراءة الجماعيّة لنخبة من المحكّمين لهم أذواق محدّدة، واختيارات جماليّة معيّنة وليسوا مجموعة من الأساتذة يقيّمون طلبة بمعايير مصطنعة. لا يوجد في الأدب إجماع على معايير وإلّا لأمكن لدور النشر العالميّة الكبرى أن تنشر بفضل محرّريها الأدبيّين المحترفين روائع كلّ أسبوع. شخصيّاً أعرف أن الكثيرين لم يروا روايتي جديرة بالبوكر، وأنا أيضاً رأيت أنّ بعض اختيارات لجان البوكر ليست صائبة في هذه الدورة أو تلك. ولكنّ التشكيك في جدّية أهمّ جائزة عربيّة الآن عمل ترذيل غير لائق. أتحدّث عن البوكر تمثيلاً لا حصراً، لأنّها تثير في الغالب الجدل ويتمنّاها أيّ روائيّ عربي اليوم.

■ كيف تنظر إلى ظاهرة ورشات تعليم الرواية، وعلى المستوى الواقعي ما هي ورشة الروائي أو محترفه برأيك؟

- قد تكون مفيدة لبعض الكتاب الموهوبين في صقل أدواتهم لأن الكتابة اليوم لم تعد موهبة فقط، بل تقوم على المعرفة بأنواعها. لكن الثابت أنّ هذه الورشات لا تصنع المبدعين، ولم يدّع أحد من المدرّبين أنّه قادر على أن يجعل من شخص، بلا خبرة حياتيّة أو معرفة أدبيّة، ولا يقرأ الروايات وينتبه إلى أساليب الكتابة وتقنيات البناء ولو ضمنيّا، روائيّاً.


■ كيف تفسِّر صعود ظاهرة الرواية "الأكثر مبيعاً" في العالم العربي؟

- هذه الظاهرة إذا كانت قائمة على إحصاءات سليمة فهي مفيدة في تبيّن ميول القرّاء، ونزعات الكتابة داخل السوق الأدبيّ العربيّ. فالكتاب ظاهرة اقتصاديّة وتجاريّة أيضاً، وإن كان أغلبنا ينزع إلى نوع من المثاليّة في نظرتنا إليه بحكم تصوّرنا التقديسيّ له. لكن الأكثر مبيعاً لا يطابق بالضرورة الأجود أو الأكثر تجديداً وإبداعاً، ولا يعني أنّه بالضرورة من الأدب العالميّ.

ضعف النقد من ضعف العلم بالأدب وخصوصاً في الجامعات العربيّة

■ ما هو برأيك موقع الرواية العربية على خريطة الإبداع العالمي؟

- بكلّ صراحة موقع محدود جدّاً لأسباب متعدّدة. منها أنّ سوق الأدب والإبداع في العالم تعيش وفرة وافرة، ومن الصعب أن يحتلّ الإبداع العربيّ موقعاً بارزاً فيها. ومنها أنّ الإبداع في عالمنا العربيّ، وإن كان يتطوّر ويعمل على التعبير عن تنوّع مجتمعاتنا وتعدّدها، والكشف عن خصوصيّاتها ومميّزاتها، فإنّ نسق تطوّر الفنّ الروائي في العالم سريع جدّاً. ولكنّ العامل الحاسم في ظنّي أنّ المتحكّمين في السوق نشراً وتوزيعاً وانتقاءً لما يترجم وإشهاراً وتأثيراً إعلاميّاً... إلخ متمركزون في المدن العالميّة الكبرى، باريس ونيويورك ولندن بالخصوص، وبعض المدن الأخرى. فالاحتكار الجمالي والأدبي لا ينفصل عن الاحتكار الاقتصادي والتجاريّ. ووضعنا الأدبيّ صورة من وضعنا الحضاري العام.


■ ماذا تقول لروائي عربي شاب يكتب روايته الأولى الآن أو يُفكر في كتابتها؟

- لا شيء خاصّاً. فقط عليه أن يقرأ كثيراً من الروايات المختلفة خصوصاً الكلاسيكيّات العالميّة، وألا يغترّ بدعاة كسر قواعد الرواية من نقاد أو روائيّين، وأن يختار الأسلوب الروائي الذي يعجبه، وعند الكتابة سيبرز هل هو حكّاء أم لا؟



بطاقة

أكاديمي وروائي تونسيّ من مواليد 1962. له في الرواية: "الطلياني" (2014)؛ وقد حازت على "الجائزة العالميّة للرواية العربية - البوكر"، و"باغندا" (2016)، و"مرآة الخاسر" (2019)، و"السيرة العطرة للزعيم" (2020)، و"السيّد العميد في قلعته" (2022)، و"يوميّات نور في العشر الأواخر من الأربعين" (2023). له مجموعة قصصية بعنوان "السيدة الرئيسة" (2015)، وقصة للأطفال بعنوان "مدينة الناجحين" (جائزة عبد الحميد شومان لأدب الطفل).

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون