في عام 1903، وصلَت الكاتبة والرحّالة السويسرية إيزابيل إيبرهارت (1877 - 1904)، إلى مدينة العين الصفراء في الشمال الغربي من الجزائر التي سافرت إليها، لأوّل مرّة، عام 1897، رفقة والدتها، وقرّرت العيش فيها، مُتنكّرةً بملابس ذكورية وباسم "سي محمود السعدي".
باستثناء سنوات قليلة قضتها في مرسيليا التي أبعدَتها إليها سلطاتُ الاستعمار الفرنسي، وفي جنيف؛ حيث قامت بتمريض والدها الذي رحل عام 1899 متأثّراً بسرطان الحنجرة، عاشَت إيبرهارت في الجزائر منذ زارتها لأوّل مرّة؛ حيثُ اعتنقت الإسلام، وكتبت عن البلد وطبيعته ومجتمعه وتقاليده، وانحازت إلى نضال الجزائريّين ضدّ المُستعمِر الفرنسي، وهي التي عملَت مراسلة حرب وغطّت عدداً من الثورات الشعبية؛ وأبرزها ثورة الشيخ بوعمامة (1833 - 1908)، في الجنوب الغربي، والتي استمرّت لأكثر من ثلاثة وعشرين عاماً (1881 - 1904)، كما غطّت العمليات العسكرية الفرنسية في الحدود مع المغرب، بالتزامُن مع ثورة الزرهوني ضدّ السلطان عبد العزيز بن الحسن، والتي استمرّت من 1902 حتى 1909.
وفي مدينة العين الصفراء الصحراوية الصغيرة الواقعة على الحدود الجزائرية المغربية، ستنتهي حياةُ الكاتبةِ وهي لم تتجاوز السابعة والعشرين ربيعاً، في فيضانٍ طوفاني أتى، يومَ الواحد والعشرين مِن تشرين الأوّل/ أكتوبر 1904، على بيتٍ استأجرته وقضَت فيه سنواتها الأخيرة، بعدَ أنْ تنقّلَت بين مُدن جزائرية عدّة: عنّابة في الشرق؛ حيثُ ماتت والدتُها عام 1897 ودُفنت باسمها الجديد؛ فاطمة، وباتنة التي قضَت فترةً فيها، في "فندق الشرق" وسْط المدينة بدايةً، ثمّ مع زوجها الجزائري سليمان هني في منزلٍ بـ"حيّ الزمالة"، وتْنَس سْعيدة وتلمسان في الغرب، وبوسعادة وقمّار وتقرت والقنادسة وتاغيت وغيرها في الجنوب...
تذكُر بعض الروايات أنَّ الجنود الفرنسيّين، الذين تدخّلوا لإنقاذ إيزابيل إيبرهارت بتكليفٍ مِن الجنرال هوبير ليوتي، عثروا على جثمانها تحت أنقاض المنزِل الذي غمرته مياه الوادي، ممسكةً بمخطوط كتابٍ دوّنت فيه تأمُّلاتها، وهو العمل الذي سيصدُر، بعد رحيلها، بعنوان "المتسكّع"، إلى جانبٍ أعمالٍ أُخرى في أدب الرحلة والقصّة والرسائل والتحقيق الصحافي.
تُشير هذه الروايةُ إلى أنَّ المنزل الذي عاشت فيه إيبرهارت سنتَي 1903 و1904 في العين الصفراء قد تعرَّض للانهيار بفعل الفيضان. لكنَّ مثقّفين من المنطقة يعتقدون أنّ البيتَ ظلّ قائماً، وقد طالبوا، غير ما مرّة، بتحويله إلى متحف يُوثّق لحياة الكاتبة الراحلةِ ولأعمالها.
ليس ثمّة اتفاق على تحديد منزل إيبرهارت في العين الصفراء
وقبل أيام، تداوَل كتّابٌ، على "فيسبوك"، صُوَرةً تُظهِر جرّافةً وهي تهدمُ منزلاً في مدينة العين الصفراء، مُؤكّدِين أنّ الأمرَ يتعلّق بالبيت الذي قضَت فيه إيبرهارت سنواتها الأخيرة وعُثر فيه على أبرز آثارها الأدبية، واصفِين الأمر بأنّه "نسْفٌ للذاكرة" مثلما علَّق الشاعر يوسف شنيتي، و"جريمةٌ في حقّ معْلمٍ أثري وشاهد تاريخي" مثلما كتب المُخرج خالد شنّة.
مُلتقِط الصورة هو الكاتب والأكاديمي الجزائري عبد القادر ضيف الله، والذي سألَته "العربي الجديد" عن حقيقةِ ما حدث؛ فبدأ حديثه بالإشارة إلى تفصيل مُهمّ؛ يتمثّل في الخلاف القائِم حول تحديد منزل إيبرهارت؛ فـ"بينما يُرجّح البعضُ، وأنا مِنهم، أنّ المنزل الذي جرى هدمُه مؤخَّراً هو الذي أقامت فيه الكاتبة والرحّالة السويسرية، يَعتقدُ آخرون أنّ إيبرهارت أقامت في منزِلٍ يُلاصقه"، مُضيفاً: "كنّا نستقبل زوّار المدينة في المبنى الذي جرت إزالتُه مِن أساساته، ونُقدّمه بوصفه منزل إيبرهارت".
لكنَّ هذا الخلاف لا يُغيِّرُ من الأمر شيئاً بالنسبة إلى ضيف الله، الذي يترأّس جمعيةً ثقافية محلّية تحمل اسم الكاتبة الجزائرية الراحلة صافية كتّو (العين الصفراء، 1944 - الجزائر العاصمة 1989)؛ إذْ يقول، في حديثه إلى "العربي الجديد"، إنَّ المنزل الذي لا يزال قائماً قد يتعرَّض للهدم في أيّة لحظة، ضمن عمليات التجديد التي تتعرَّضُ لها مباني وسط المدينة، في ظلّ لامبالاة السُّلطات المحلّية ووزارة الثقافة.
تنظر السلطات الرسمية بعين الريبة إلى الرحّالة السويسرية
يُوضّح المُتحدّث أنَّ المنزل المُهدَّم يقعُ ضمن أملاك ورثةِ أحد سكّان المدينة؛ حيث قاموا بهدمه بهدف تشييد منزلٍ جديد مكانَه، أمّا البيتُ القائم فاشتراهُ شخصٌ آخر وأدخَل عليه تغييراتٍ جذريةً مسحت معالمه المعمارية الأصلية، مُضيفاً أنّ الأخير، وخلال التحضير لاحتفالية خاصّة بمئوية رحيل إيبرهارت عام 2004، عرضَ على الجمعية شراءه مقابل "مبلغ خيالي"، رغم عدم وجود دلائل ماديّة تؤكّد أنّه البيتُ نفسُه الذي عاشت فيه الكاتبة والرحّالة السويسرية.
ويُشير صاحبُ رواية "تنزروفت: بحثاً عن الظلّ" (2015)، إلى أنّ المنزلَين بُنيا وفق العمارة الأوروبية مع دخول الفرنسيّين إلى المنطقة في حدود العام 1847، وأنّهما يقعان بمحاذاة الوادي الذي يقسمُ المدينةَ إلى نصفَين، والذي تسبَّب فيضانه في موت إيبرهارت غرقاً.
يصف عبد القادر ضيف الله ما يتعرَّض له الجانب القديم من مدينة العين الصفراء بأنّه "هدمٌ ممنهَج للتراث والتاريخ"، مضيفاً أنّ "السُّلطات المحلّية لم تستجب لمطالباتنا بحماية المنزل وتحويله إلى متحف، وبإعادة تسمية الشارع الذي يقع فيه باسم إيزابيل إيبرهارت مثلما كان عليه في السابق، وإطلاق اسمِها، واسم صافية كتّو، على مؤسّسات ثقافية في المنطقة".
يُضيف المتحدّث: "حتّى الاحتفالية التي حضّرنا لها مع بداية الألفية الجديدة بمناسبة مئوية رحيلها اضطررنا إلى إلغائها بسبب عدم توفُّر أيّ دعمٍ رسمي"، مرجّحاً، في هذا السياق، أن تكون لهذه اللامبالاة علاقةٌ بالنظرة الرسمية التي "لا تزالُ تنظر إلى إيبرهارت بعين الريبة، وهي نظرةٌ لا يَخفى تأثُّرها بكتابات بعض الفرنسيّين الذين كانوا - دون غيرهم ممّن كتب عنها - يعتبرونها جاسوسة للإدارة الاستعمارية".