أنا مُراقَب منذ سنوات، وهذا ما أنا عليه الآن، كلُّ تحرّكاتي مراقبة، كلُّ دقيقة أو ثانية، مراقَب عبر الكاميرات البعيدة، وعبر مستشعرات الصوت الحديثة، مراقّب على ما أكتب أو أقرأ. وأعتقد أنني مراقب على ما أبيع وأشتري.
أيّ صديق ألتقي به أو رجُلٍ ألوّحُ له، مراقَب على نوع الطعام الذي أطلبُه، والشاي الفاخر الذي أتناولُه، مراقبٌ على ما أشاهد أو أُنصت له.
صحيح أنني مُرهق، مع كلّ تلك السنين من المُراقبة، لكني أجدُها الآن أخفّ حِدّة، مما لو قارنتُها بكلّ تلك السنين معاً.
صِرتُ أعتادُ تلك المراقبة، وأقومُ بأفعال محسوبة على أثرها. أستيقظُ مبكّراً، أصِل في الوقت المُحدّد، آكل ما يُسمح به، وأشربُ الشاي الذي أطلقتُ عليه "الفاخر" في المرّة الأولى، أتحدّث باللغة التي يُسمح بها، وأحافظ على هدوئي وسكِينتي، ثم أمرُّ في الشارع ذاته، وأدخل من نفس الباب.
وأسجّل كلّ ذلك على أنه ذكرياتٌ جميلة؟
كثيراً ما تأملت سنين المراقبة تلك، هل كانت سنينَ حقيقية؟ هل كنتُ أنا بالفعل من خاض ذلك كلّه؟ هذا الذي يصحو ويأكل ويذهب، دون أيّ تمثيل لإرادة حُرَّة، هل يعدّ نفسه قد عاش حياته؟
وعندما كنتُ مراهقاً، وفي الليالي البرّاقة تلك، حينما أتوسّد فِراشاً في العراء، وأنظرُ نحو تلك النجوم المتكتّلة، هل كنتُ فعلاً أحلم بكل ذلك؟ هل اخترت هذا الذي يُدعَى "النضج" لنفسي؟
أمعائي تراقبُني أيضاً، ماذا أكلتُ اليوم وأي دواء نسيت؟ ثم لو أنني استدركتُ ذلك كلّه وقلت: ذلك الذي يراقبني، ألا يشعر بالملل؟ هل يملك روتيناً خاصاً به، هل يشرب الشاي وهو يتسمّر أمام شاشته، هل الشاي عنده "فاخر" أيضاً (لقد ذكرناه للمرّة الثالثة الآن) ربما يشرب الماء الساخن مع أقراص الليمون، ربّما يصحو قبلي ببعض دقائق، وربّما يمرّ من فوق الشارع الذي أسلكُه. لكن هل يشعر بثقل ذلك؟ ثقل أن يلتزم بمراقبتي، هل يملك عضلات للكتف مثلنا، ألا تتصلّب مع تجمده على ذلك الكرسي لساعات؟
ينتظر وينتظر دون أن يحدُث ما ينتظره، فلم أكن لمرّة قد تأخّرت في موعدي، أو تصرّفت على نحو مُسيء. ما الذي يُشجّعه على الاستمرار إذن، وما الذي يشجّعني أيضاً؟ ثم هناك سؤال لا يتفاداني أبداً، الذي يراقبني ويحرس تصرّفاتي وأفعالي، مَن الذي يُراقبه؟
لم يكن سوى مصفوفةِ أرقام، لم تكن غرفة المراقبة بشاشة مقسّمة وكرسيٍّ دوّار، لأعوام طويلة كنتُ تحت مراقبة روبوت طيّع، لا يخدم أحداً سوى رأس المال.
* كاتب من العراق