هكذا كتب ماركيز "خريف البطريرك"

29 اغسطس 2024
غابرييل غارسيا ماركيز في مدينة قرطاجنة الكولومبية، 1991 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في "خريف البطريرك"، يصف ماركيز الدكتاتور زكريا المكتئب لاكتشافه أنه لا مكان له في العالم. الحرارة كانت عنصراً أساسياً في رواياته، مما دفعه لإعادة كتابة أعماله إذا لم تعكس الحرارة الاستوائية.

- ماركيز كان يزيد حرارة الجو أثناء الكتابة بالسفر إلى بلدان حارة أو استخدام تدفئة صناعية. في "خريف البطريرك"، سافر إلى الكاريبي لتجربة الحرارة الحقيقية، مما ساعده على إنهاء الرواية.

- الحرارة كانت جزءاً من حياة ماركيز وأعماله، بما في ذلك "مائة عام من العزلة". توفي في 2014، في يوم الخميس المقدس، وهو اليوم الذي تموت فيه شخصية رئيسية في الرواية.

في واحدة من تلك الفقرات التي لا نهاية لها من رواية "خريف البطريرك"، للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014)، دون أيّة نقاط تقريباً، كما لو أنّه يريد أن يرهق قارئه، يصف الكاتب الكولومبي بطلَ روايته المسنّ، الدكتاتور زكريا؛ الذي لا يقول اسمه إلّا مرّة واحدة في الرواية، على النحو التالي: "شعرَ بالاكتئاب عندما اكتشف فجأة أنّ كل شيء قد وجد أخيراً مكانه في العالم، كلّ شيء باستثنائه، كما لاحظ لأوّل مرّة القميص المبلّل بالعرق في مثل هذه الساعة المبكّرة، ورائحة الجيفة المتبخّرة من البحر وصفير الناي العذب الملتوي بفعل الحرارة والرطوبة. قال لنفسه ليس عن قناعة: إنّها الحرارة الشديدة".

ويروي غابو في مقابلة أجريت معه عام 1972 أنّ الشعور بالحرارة المرتفعة كان شرطاً أساسياً لكتابة أبرز أعماله الروائية، بما فيها "خريف البطريريك" و"مائة عام من العزلة". وقد كان الأمر بمثابة هاجسٍ بالنسبة له، حتّى إنّه أدرك أثناء عملية الكتابة أنَّ رواياته إن لم تكن تعكس الهبّات الساخنة في المناطق الاستوائية، أو عرق الشخصيات الموجودة في رواياته، فإنّه كان مستعدّاً لإعادة كتابتها مرات عدّة حسب الضرورة.

ويُروى عنه أيضاً أنه اعتاد في أثناء عملية كتابة رواية ما أن ينظّم رحلة إلى بلدان تكون فيها درجات الحرارة مرتفعة إلى حدّ مؤلم، وفي حال لم يتمكّن من السفر، فإنّه كان يحرص على وضع أنظمة تدفئة صناعية في الغرف التي يكتب فيها، ليشعر بتلك الحرارة في جسده ويصفها بأكبر قدرٍ ممكن من الدقّة.

دائماً كانت الحرارة: في حياته، في قصصه، وفي رواياته

وفي الواقع، عندما كان غابو يكتب "خريف البطريرك"، اشتكى لأقرب دائرة له من الأصدقاء من أنّه لا يستطيع الحفاظ على الدفء في شقته في ساريا سانت جيرفاسي في برشلونة. فاتصل بصديقة له وقال لها: "أمس وصلت من مدريد وحتى الآن لم أبدأ بالكتابة من جديد. لقد غادرت لأنّني وجدت أنَّ كتابي الجديد تافه. كنتُ أتوقّع أن يكون لي رأي مختلف عند عودتي. مع ذلك، ما زلت أجده سيّئاً. لا أستطيع أن أرفع من حرارة الكتاب. أقول إن الحرارة مرتفعة وهي ليست كذلك".

ويتابع صاحب "قصة موت معلن" في المقابلة نفسها، والتي نُشرت قبل ثلاث سنوات من طباعة "خريف البطريرك"، شارحاً الإجراءات التي تعيّن عليه أن يتّخذها كي يزيد من حرارة الجوّ: "كان هناك وقت لم أستطع فيه أن أدفّئ الجو في مدينة خريف البطريرك. بالنسبة لي، كان الأمر خطيراً، لأنّه يحدث في مدينة خيالية في منطقة البحر الكاريبي. لا يكفي أن تكتب كان الجو حارّاً للغاية وتسكت. على العكس من ذلك، كان لا بدَّ من كتابة الأمر بحيث أترك القارئ نفسه يشعر بتلك الحرارة المهلكة. الشيء الوحيد الذي كنتُ أفكّر فيه هو أن آخذ عائلتي بأكملها وأذهب إلى منطقة البحر الكاريبي، وفعلاً هناك تجوّلت لمدّة عام تقريباً، دون أن أفعل شيئاً. وعندما عدتُ إلى برشلونة مرّة أخرى، راجعت ما كتبته، وزرعت بعض النباتات ذات الزهور الكثيفة للغاية في بعض الفصول، وأضفت رائحة كانت مفقودة في مكان آخر، والآن لا مشكلة على الإطلاق. يتحرّك الكتاب بسلاسة حتى نهايته".

هكذا ساعد طقس الحرارة المرتفعة الفائز بـ"جائزة نوبل" على كسر الحاجز الإبداعي وإنهاء روايته. ولم تكن هذه المرة الأولى التي حدثت مع ماركيز، ففي كتابه الأشهر "مئة عام من العزلة"، الذي نشره عام 1967، وتدور أحداثه في ماكوندو؛ البلدة الخيالية التي طوّر فيها العديد من أعماله، كان طقس الحرارة أيضاً ضرورياً حتى يتمكن من وصف الحرّ الخانق والكوارث والجرائم القادمة.

دائما كانت الحرارة: في حياته، في قصصه، وفي رواياته؛ حرارةٌ لا تطاق، ولكنه يبدو أنه لم يرغب ولا مرّة واحدة في الهروب منها. رحل غابرييل غارسيا ماركيز عن عالمنا عام 2014، عن عمر يناهز 87 عاماً. كان ذلك في يوم الخميس المقدّس؛ وهو اليوم نفسه الذي تموت فيه أورسولا إيغواران، إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية "مائة عام من العزلة". وصف ماركيز تلك اللحظات على النحو التالي: "كانت الحرارة مرتفعة إلى درجة أنّ الطيور التائهة اصطدمت مثل البنادق بالجدران وحطمت الشباك المعدنية للنوافذ، لتموت في غرف النوم".

وفي يوم رحيله، ظهر أيضاً عصفورٌ ميّت داخل المنزل الذي قضى فيه الكاتب الساعات الأخيرة من حياته. ووجدوه منهاراً على الأرض بالقرب من الأريكة التي كان يشغلها.

المساهمون