قادَ النشاطُ السياسيُّ الشاعرَ اليوناني تاسوس ليفاذيتيس مرّات عدّة إلى السجن والمنفى. هنا المقطع الرابع من ديوانه الثاني "هذا النجم لنا كلّنا" الذي نشره عام 1952.
الآن سيحلّ الليل بغتة.
سيَعجَل الناسُ في الطرقات. النساء سيُغلِقن مُرتعباتٍ أبوابهنّ وسيحضنّ أولادهنّ.
إلا أنّ وجوه أولادهنّ الجائعة تلقي على الجدار ظلّاً أسود
كظلّ رغيف خبز.
ستجلسين على طبليّتنا الخفيضة نفسها
السقف سيرشح أكثر فأكثر
من شرشف قديم ستَخیطین ثياب ولدنا الصغيرة
وستَرقَعين بمرارتك فراغ الفراق.
أتُرى ما زالت السماء التي كنّا نراها من شبّاكنا تُقمِر
أما زالت تزهر في باحتنا شجرة الدرّاق الصغيرة؟
واحداً فواحداً سيختفي العمّال من المصنع المقابل.
لكن حين يُدَقّ بابنا ليلاً
لن تخاف أُمّكِ بعد الآن.
بل ستضيء المصباح فقط كي لا يُضيّع الطريق
أولئك المقبلون على الموت
ثم ستنفخ النار لينال القتلى بعض الدفء
وأنت ستفتحين بِیَدَیْنِ واثقتَين وستُنصِتين في الليل
إلى ذلك الضجيج العظيم
إلى لَجَب الأقدام البعيد الذي لا يَهمُد.
لأنّك الآن، يا حبيبتي، تعرفين
لأنّنا نعرف.
آلاف الناس يدافعون عن العالم
وعن حُبِّنا.
أجل يا حبيبتي،
إنّنا لأجل هذه الأمور القليلة والبسيطة نحارب
لأجل أن يكون عندنا باب، نجم، وطبليّة
طريق سعيدة عند الصباح،
وحلم هانئ في المساء.
ليكون لنا عشقنا الذي لا يلطّخونه لنا
أُغنية نقدر أن نغنّيها
لكنّ هؤلاء يخلعون أبوابنا
يدوسون على عشقنا.
وقبل أن نُنشِد أغنيتنا
يقتلوننا.
يخافوننا ويقتلوننا.
يخافون السماء التي نحدّق إليها
يخافون الحافّة التي نتّكئ إليها
يخافون مغزل أمّنا وكتاب أبجديّة ولدنا
يخافون يديك اللتين تعرفان أن تعانقا بهذا الحنان
وأن تشقَيا بهذه الرجولة
يخافون الأقوال التي نتهامسها نحن الاثنين
يخافون الأقوال التي سنقولها غداً جميعنا
يخافوننا، يا حبّي، وحين يقتلوننا
ونحن أموات يخافوننا أكثر.
أحبّك أكثر ممّا أقدر أن أقوله لك بالكلمات.
كلّ الفرح في عينيك، بأكملها الحياة في يديك
كلّ الدنيا على جدار يقع عليه ظلّك في الليل.
لا، لن يكون بإمكاني أن أحيا بعيداً عنك، يا حبيبتي.
لكن نحن نقدر أن نحبّ ونفترق
وسيبقى لنا هذا أبداً
لن يقدر أحد أن يأخذ منّا هذا.
هذا الحبّ، هذه الحرب، إيماننا هذا بالحياة.
وداعاً، إذاً، وداعاً.
كي تبقى عيناكِ دوماً ضاحكتَين
وداعاً
كي لا تضيع اللحظات الجميلة التي عشناها
وداعاً
كي لا يرعبنا الليل، ولا يسرقوا منّا السماء
وداعاً.
كي ينتهي الظلم أخيراً في العالم
وداعاً.
يمكن، علاوةً، أن نُقتل، يا حبّي. ومَن يعبأ.
آلاف الناس يموتون كل يوم
بلا اسم
آلاف النساء استيقظن فجأة في الصباح
وكنّ للأبد وحیدات.
ليس للأولاد لمسة تُلاطِفهم ولا لهم خبز. وداعاً.
قد لا أعود.
سيعقد آخَرُ يديه حول
قدّك الدافئ.
لا تنسيني.
لكن لا، لا، يا حبّي، يجب أن تنسيني.
سيكون واجباً أن تَهَبيهِ ذاتَك بالكلّيّة
كما وهبتِها يوماً لي.
فقط حينما تسمعان يوماً هتافات التحيّة وتقفان في وسط الطريق
محدّقَين بأعلامنا تنفتح في الشمس
عندها
إيهِ، عندها، تذكّريني لحظة، لحظة فقط.
ثمّ شدّي على يده وحُثّا خطاكما
سائرَين نحو المستقبَل.
هيّا، إذاً، امسحي عينيك، لا تبكي. ربّاه، ما أجمل هاتَين العينَين!
هل تذكرين، حقّاً، ذات مساء حين جلسنا إلى النافذة
والغراموفون بعيد وكنّا نسمع بلا أن نتكلّم.
قلتِ: لا يكنْ عندنا غراموفون، وليتهم لم يضعوا هذه الأسطوانة لنا.
لكنّ هذه الأغنيةَ الخافتةَ أُغنيتُنا. وهذا المساء مساؤنا.
وهذا النجم، هناك، بأكمله لنا. هذا ما قلتِه.
تتكلّمين كشاعر، يا حبّي، جاهرتُ مذهولاً.
أَمْرَرْتِ ذراعَيكِ حول عنقي
وقبّلتِني. كما تعرفين أنتِ وحدكِ أن تقبّلي.
هيّا، إذاً، لا تبكي.
أحسنت هكذا، هكذا تعجبينني- ابتسمي.
إنّنا سنحيا، يا حبيبتي، وسننتصر. مهما يفعلوا
فسننتصر.
ذات يوم سنعود ونلتقي.
سنشتري وقتها نحن أيضاً غراموفون خاصّاً بنا
وسنُديرُه طوال الساعة. نعم، يا حبّي،
لا بل سنجلس إلى النافذة، جنباً إلى جنب.
ذات يوم سنعود ونلتقي.
وعندها
كلّ المساءات وكلّ النجوم وكلّ الأغاني
ستكون لنا.
* ترجمة عن اليونانية: روني بو سابا
بطاقة
Tásos Leivadítis، شاعر يونانيّ من مواليد أثينا عام 1922 ورحل فيها عام 1988. قاده نشاطه السياسيّ اليساريّ مرّات عدّة إلى النفي والسجن. وقد تشارك المنفى أحياناً مع شعراء آخرين مثل يانيس ريتسوس وتيتوس باتريكيوس وغيرهما. أصدر تسعة عشر ديواناً تبعها ديوان بعد وفاته. المقطع المنشور هنا هو من ديوانه الثاني "هذا النجم لنا كلّنا" الذي نشره في عام 1952 بُعَيد نشره ديوانه الأوّل في العام نفسه. الديوان عبارة عن خمسة مقاطع يخاطب فيها زوجته ماريّا ويصوّر الحبّ كفعل ثوريّ يوميّ يكتسب عمقه من أدقّ التفاصيل.